التضحية في سبيل الله ـ 01
الشيخ الدكتور أحمد الوائلي
قال الله سبحانه في كتابه الكريم: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُـرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ﴾([1]).
مباحث الآية الكريمة
تتضمن هذه الآية الكريمة مجموعة من المباحث الشريفة التي تنطوي بدورها على أبحاث ذات مضامين سامية سوف نتطرق لها جميعها بما يتّسع له المقام إن شاء الله تعالى:
المبحث الأول: سعي الإسلام إلى إعادة توزيع الثروة
يقول تبارك وتعالى في آية المقام الكريمة: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ﴾. ويلاحظ هنا أن من ينعم النظر العلمي في هذا المقطع الشريف فسيجد فيه التفاتات هامّة عدة لابدّ من الوقوف عندها لذلك. وهو ما سنقوم به إن شاء الله تعالى؛ حيث نجمل كلّ ذلك من خلال الأبحاث الكريمة التالية:
البحث الأول: لام الجر ولام التحلية
وهذه الكلمة محلّاة بالألف واللام، وحينما نرجع إلى كتب النحو واللغة فإننا نجد أن اللام الداخلة على النكرات تكون على أنحاء عدة تكفلت الكتب المشار إليها ببيانها وعدها وتوضيحها. والذي يهمنا هنا من هذا الموضوع هو نوع اللام الداخلة على هذه المفردة، وكذلك الكلام بالنسبة للّام الجارّة الداخلة على هذه المفردة. وكما نعرف أن علماء النحو واللغة قد وضعوا بناء على بحثهم واستقرائهم عدة معانٍ للام الجر هذه، والذي يعنينا من هذه المعاني كلها معنى واحد هو الذي تريده آية المقام الكريمة، وهو كونها للتمليك أو الاختصاص.
أما المراد من لام التحلية هنا، فلام الجنس، وبناء على هذه الالتفاتة فإننا لابدّ أن نذكر أنه بناء على هذا لابدّ أن نشير إلى أن هذه الآية بهذا التقرير تكون مرتبطة بالآية السابقة لها([2])، والتي تحدد موضوع دفع الأموال، أو موارد صرفها كما أرادته السماء.
البحث الثاني: آلية إعادة التوازن إلى المجتمع
إذن فالآية الكريمة تريد أن تبين لنا من هم الذين ينبغي أن يصرف عليهم، أو تعطى لهم الأموال الفائضة عن الحاجة، أو الأموال المأخوذة من الأغنياء وفق قانون الضرائب الإسلامي المعتمد على جملة من مقررات الشرع الأقدس في هذا المجال، ومنها الزكاة والخمس والصدقات المستحبة وما إلى ذلك. وعليه فكأن الآية الكريمة في مقام بيان ما كان عليه حال الصحابة الذين تصور لنا الآية أنهم كانوا يدأبون على سؤال النبي| عما يفضل عندهم: في أي سبيل ينفقونه؟
فجاءهم الجواب شافياً وافياً من خلال القرآن الكريم: ﴿مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْلَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾([3]).
فهم إذن لا ينفكون يسألون رسول الله| عما عندهم من موارد برٍّ، وأموال، وهذه الأموال يتعلق بها حق شرعي من جهة، ويتعلق بها من جهة أخرى رغبتهم في أن يتصدقوا منها أو يعينوا من يستحق الإعانة في المجتمع، فكأن لسان حالهم: إننا نريد أن نتطوع إلى الله عز وجل في إعطاء هذه الأموال، فلمن نعطيها إذن؟ فكان رد القرآن الكريم واضحاً في هذا الباب عن طريق قوله تبارك وتعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ﴾، أي أن هؤلاء هم الأحق بهذه الأموال الفائضة عن حاجتكم، أو الأموال الضريبية عامّة، التي تتعلق بذممكم؛ سواء كانت أموإلّا زكوية، أو خمسية، أو غير ذلك.
ولابدّ من الإشارة هنا إلى أن الفقراء الذين يستحقون هذه الإعانة هم الفقراء الموصوفون بآية المقام الكريمة وفق سياقها القائل: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ﴾، والتي بينت من خلال هذا النص الشريف النعت الذي ينبغي أن يكون عليه الفقير حتى يستحق هذه المعونة المقررة له بتفضل من السماء. وقد أجملتها هذه الآية الكريمة بستّ صفات ارتضاها الله تعالى منهم:
1ـ الهجرة.
2ـ كونهم ممّن اُخرجوا من ديارهم ظلماً وعدواناً.
3 ـ كونهم ممّن صودرت أمولهم قهراً وتعسّفاً.
4 ـ أنهم إنما يبتغون بكلّ هذه التضحيات فضل الله سبحانه، وقربه ورضوانه كما قال عزَّ من قائل في موطن آخر من كتابه الكريم: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنْ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾([4]).
5ـ أنهم ينصرون الله سبحانه وتعالى في كل موطن ومقام تقتضي الحال فيهما تلك النصرة.
6ـ الصدق في القول والفعل، والواقع والمستلزمات.
وهذه الصفات طبعاً سوف نمر عليها تباعاً إن شاء الله من خلال بيان سياقات الآية الكريمة. وقبل الولوج في هذا الباب لابدّ من أن نلفت نظر الآخر إلى جانب مهم تنطوي عليه هذه الآية الكريمة هو سعي السماء إلى إعادة توزيع الثروة في المجتمع الإسلامي والقضاء على محاولات تكديسها في جانب دون جانب.
فالآية إذن في مقام بيان الآلية الصحيحة والمنهج السليم الذي ينبغي أن تتم من خلاله معالجة مسألة تكديس الثروات داخل المجتمعات البشرية، والقضاء على هذه الظاهرة المرضية التي تعتري جسد المجتمع البشري فتخلق من الطبقة الفقيرة فيه ـ إن لم تكن طبقة ملتزمة ـ عناصر موبوءة داخل المجتمع من الممكن أن تسبب له بكثير من المشاكل أو حتى يصل الأمر معها إلى الجرائم.
وبناء على هذا فإننا نعتبر أن هذه الآية الكريمة تدخل ضمن منظومة الآيات القرآنية الشريفة التي تتعلق بآلية إعادة التوزيع بين أفراد المجتمعات، وكيفيته، وكذلك بآلية تدوير الثروات داخل المجتمع الإسلامي؛ وذلك لتحقيق هدفين أساسيين هما:
الهدف الأول: تحريك عجلة الاقتصاد داخل المجتمع
ذلك أن تكديس الثروة عند جهة ما دون جهة يخلق حالات من التوتّر الاقتصادي والمعيشي داخل المجتمع الإنساني، وعادة ما تكون هذه الجهة التي تتكدّس عندها الثروات تكون قليلة الأفراد؛ لأن أصحاب الثروات بشكل عامّ يمثّلون تجمّعات قليلة بالنسبة إلى المجتمع البشري كافة، في حين أن الأغلب من أبناء المجتمع يعيشون حالات الفقر والعدم. وعليه فإنهم لا يتمكنون من شراء ما هم بحاجة إلى شرائه، ولا من تفعيل الحركة الاقتصادية، ولا تسريع عجلة الاقتصاد، أو تعجيل تسارع النشاط الاقتصادي أو التجاري؛ وهو ما يعني بالنتيجة شلل الاقتصاد داخل المجتمع البشر إن لم يعنِ موته.
الهدف الثاني: القضاء على دوافع الجريمة ومناشئها
ذلك أننا حينما نكفل للفقير حاجته من خلال الضرائب الواجبة كالزكاة والخمس كما ذكرنا، أو من خلال الصدقات المستحبة والمعونات التي يقدمها أصحاب الخير إلى غيرهم، فإننا بهذا نكفل للفقير لقمته وحاجته من اللباس وغيره. وإذا كفلنا له ذلك، فإننا نكون قد ولجنا خندق محاربة الجريمة في المجتمع، والقضاء على جانب الإجرام فيه، وحُلنا دون تحوّل أفراده الفقراء إلى عناصر ضارّة داخل هذه المجتمعات بأن يتحوّلوا إلى سرّاق ولصوص وقتلة من أجل أن يكسبوا رغيف قوتهم وقوت عيالهم، أو ثيابهم، مع ما يستلزم ذلك من الحيلولة دون وقوع ما يمكن أن يترتب على هذه السرقات من جرائم قتل واعتداء، وقطع طرق، وإرهاب المواطنين الآمنين وإرعابهم، وما إلى ذلك.
يتبع…
___________________
([2]) وهي قوله تبارك وتعالى: ﴿مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلله وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ الحشر: 7.