الهجرة؛ ملامح نصر، ومشروع دولة ـ 19

img

الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

الجانب الثاني: إخفاء أمره| على طلابه من المشركين

 ذلك أن كتب التاريخ تحدثنا كذلك عن أنه| حينما هبط هو وأبو بكر إلى الغار، سخّر الله تبارك وتعالى له بعض مخلوقاته لتساهم في عملية حفظه وكلاءته وحمايته|؛ فأرسل تبارك شأنه الحمامة لتبني لها عشّاً وتبيض فيه على باب الغار، وأرسل العنكبوت لتنسج على بابه كذلك، كما نقلت ذلك الروايات التي تكفّلت بسرده، حيث تقول: لمـّا وصل النبي الأكرم| إلى الغار، أوحى اللّه إلى حمامتين وحشيّتين فوقعتا في فم الغار، فعشّشتا وباضتا في باب الغار، وأوحى إلى العنكبوت أن تنسج على الباب، فنسجت في وجهه فسترته.

وأقبل فتيان قريش وعتاتهم من كل بطن رجل بسيوفهم مع قائفهم([1]) الذي انتهى بهم عند الغار، حتى إذا كانوا من النبي الأعظم| قدر أربعين ذراعاً تعجل بعضهم ينظر في الغار، فرأى الحمامتين بفم الغار ونسج العنكبوت، فرجع إلى أصحابه فقالوا: لم تنظر الغار؟ قال: رأيت حمامتين بفم الغار، ونسج العنكبوت، فعرفت أن ليس فيه أحد؛ فإنه إذا كان محمد قد دخل الغار، فإنه حتماً سوف يخرق هذه الخيوط ويسحق العشّ. فسمع النبي الأكرم| محاورتهم، وقال: «فعلمت أن الله قد درأ عني بهما»([2]).

وهنا يقول البوصيري:

ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على *** خير البرية لم تنسج ولم تحم([3])

الجانب الثالث: حمل الإمام× ظعينة الفواطم لوحده

وهنا يبرز تجلِّ آخر من تجلّيات هذه الملحمة الخالدة.. ملحمة الهجرة المحمدية العظمى؛ فما إن وصل النبي الأكرم| إلى قبا سالماً حتى كتب إلى أمير المؤمنين× أن يحمل إليه ظعينة الفواطم، ويلحق به حيث هو| في انتظاره. وقد بقي| في مكانه ذلك لم يبرحه ولم يدخل المدينة حتى لحق به أمير المؤمنين× ومعه الفواطم في رحلة أشبه ما تكون اُسطورية؛ لما انطوت عليه من بطولات فذة يعزّ نظيرها، رائدها بطل الإسلام الأول أمير المؤمنين×.

الإمام× يخرج بظعينة رسول الله| نهاراً جهاراً

نعم، هنا يبدأ الدور الثالث من هذه الملحمة الإسلامية الخالدة وهو خروجه× بالفواطم ضحى على مرأى ومسمع من جميع جبابرة قريش وعتاتهم دون خوف منهم أو وجل، كما تقول الرواية:لما عزم× على أن يخرج بظعينة رسول الله| إلى المدينة، عزم على أن يخرج بها نهاراً جهاراً، بعد أن امتثل لوصية رسول الله| فطبّقها بميثاقها، ونفّذها بحذافيرها، وأدّى ما على الرسول| من الديون، ثم حمل ظعينة الفواطم، فقال له العباس بن عبد المطّلب: إن محمداً ما خرج إلّا خفياً، وقد طلبته قريش أشدّ طلب، وأنت تخرج جهاراً في إناث وهوادج ومال ورجال ونساء، وتقطع بهم السباسب والشعاب من بين قبائل قريش؟ ما أرى لك أن تمضي إلّا في خفارة خزاعة. فقال له الإمام أمير المؤمنين×:

«إن المنية شربة مورودة *** لا تنزعن وشد للترحيلِ
ان ابن آمنة النبي محمداً *** رجل صدوق قال عن جبريلِ
أرخِ الزمام ولا تخف من عائق *** فالله يرديهم عن التنكيلِ
إني بربي واثق وبأحمد *** وسبيله متلاحق بسبيلي»

لكن القوم لم يدعوه، فخرجوا في طلبه، وكمن له غلام حنظلة بن أبي سفيان في طريقه بالليل، فلما رآه× سلّ سيفه ونهض إليه، وصاح صيحة خرّ منها على وجهه، ثم جلّله بسيفه. وما شارف× ضجنان حتى أدركه الطلب بثمانية فوارس، وقالوا: أظننت أنك ناجٍ بالنسوة؟ ارجع. قال: «فإن لم أفعل؟». قالوا: لترجعن راغماً، أو لنرجعن أهون بك من هالك.

ودنا الفوارس من النسوة، فحال× بينهم وبينها، وأهوى له أحدهم بسيفه، فراغ× عن ضربته، ثم تختّله× فضربه على عاتقه، فأسرع السيف مضياً فيه حتى مس كاثبة فرسه، ثم شد عليهم بسيفه وهو يقول:

«خلوا سبيل الجاهد المجاهد *** آليت لا أعبد غير الواحدِ»

ثم قال×: «إني منطلق إلى ابن عمي رسول الله| بيثرب، فمن سرّه أن أفري لحمه، وأريق دمه، فليتعقبني أو فليدنُ مني». فانهزموا بجمعهم عنه([4]).

وما إن وصل أمير المؤمنين× إلى حيث رسول الله| ينتظره حتى استقبله استقبالاً مفعماً بالحفاوة والترحيب، والحب والحنان، ومن هناك سار الركب المحمدي الشريف مواصلاً رحلته إلى المدينة المنورة، لكنه تلك المرة كان آمناً؛ حيث الحُماة بصحبة عقائل الهاشميين ومخدّراتهم حتى دخلها. فكان ذلك اليوم يوم مهرجان عظيم احتفل فيه أهل المدينة؛ حيث استقبلوه| بالهتافات وهم يرددون.

طلع البدر علينا *** من ثنيات الوداعْ
وجب الشكر علينا *** ما دعا لله داعْ
أيها المبعوث فينا *** جئت بالأمر المطاعْ
أنت يا مرسل حقا *** جئت بالأمر المطاعْ
جئتنا تسعى رويداً *** مرحباً يا خير ساعْ
يا نبياً من ضياه *** أشرقت كل البقاعْ

تلك الاُرجوزة الخالدة التي اشتهرت وخلدت بخلود ذكر هذا النبي العظيم، والرسول الكريم محمد بن عبد الله| الذي أبى أن يدخل المدينة إلّا وابن عمّه× وأسرته والفاطميات معه.

يتبع…

_____________________

([1]) القائف: الرجل الذي يتتبّع الآثار. الصحاح 4: 1419 ـ قوف. والقيافة ضربان:

قيافة البشر، وهي الاستدلال بصفات أعضاء الإنسان لمعرفة نسبه وأصله. وتختص بقوم من العرب يقال لهم بنو مدلج حيث يعرض على أحدهم مولود في عشرين نفراً فيلحقه بأبيه منهم.

وقيافة الأثر، وهي الاستدلال بالأقدام والحوافر والخفاف على أصحابها، وقد اختصّ به قوم من العرب أرضهم ذات رمل إذا هرب منهم هارب أو دخل عليهم سارق تتبّعوا آثار قدمه حتى يظفروا به. وهم يعرفون قدم الشاب من الشيخ، والمرأة من الرجل، والبكر من الثيب، والغريب من المستوطن. انظر المستطرف في كل فن مستظرف 2: 83.

([2]) مناقب الإمام أمير المؤمنين× (محمد بن سليمان الكوفي) 1: 35 / 7. مناقب آل أبي طالب 1: 111. الخرائج والجرائح 1: 144، حديث خيثمة (خيثمة بن سليمان الأطرابلسي): 136. المعجم الكبير 20: 443. دلائل النبوة 2: 659. تخريج الأحاديث والآثار 2: 76. تفسير السمرقندي 2: 59.

([3]) ديوان البوصيري: 165.

([4]) انظر: الأمالي (الطوسي): 470 / 1031. مناقب آل أبي طالب 1: 159، 335 ـ 336، 2: 176. بحار الأنوار 19: 65، 38: 291، 40: 220. مسند أحمد 1: 348. فتح الباري 7. وفي هذه المنقبة يقول أمير المؤمنين×:

وقيت بنفسـي أشرف من وطئ الحصـى *** ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجرِ
محمد لما خاف أن يمكروا به *** فوقّاه ربي ذو الجلال عن المكرِ
وبتّ أراعيهم وما يثبتونني *** وقد صُبّرت نفسـي على القتل والأسرِ
وبات رسول الله في الغار آمناً *** وذلك في حفظ الإله؟ وفى سترِ
أردت به نصـر الإله تبتلاً *** وأضمرته حتى أوسّد في قبري

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة