الهجرة؛ ملامح نصر، ومشروع دولة ـ 18
الشيخ الدكتور أحمد الوائلي
روحي لروحك وقاء، ونفسي لنفسك فداء يا رسول الله
وما نريد أن نذكره هنا هو مسألة مبيت الإمام أمير المؤمنين× على فراش النبي الأكرم| فادياً إياه بنفسه، مع علمه بأنه إن نفّذت عتاة قريش وعيدها، واغتالت النبي| فإنها سوف تغتاله× هو، لكنه× مع ذلك رضي بالموت إذا ما كان في موته منجاة لرسول الله|، وذلك بنص قوله× لرسول الله|: «أو تسلم إذا نمت في فراشك يا رسول الله؟». فقال|: «نعم». فقال الإمام أمير المؤمنين×: «روحي لروحك وقاء، ونفسي لنفسك فداء يا رسول الله».
ثم أخذ× بُرد النبي| وتلفّع به، واضطجع في مكانه.
وهذه النظرة المختلفة إلى هاتين الحادثتين اللتين ترتبطان بمتعلّق واحد هو الهجرة النبوية المشرّفة ـ على تسليم منا بتساويهما في المنقبة، مع أننا نعرف أن مسألة المبيت تفضل مسألة الصحبة في تلك الرحلة فضلاً كبيراً حيث إنها أمر ترتّب عليه حفظ حياة رسول الله| من الموت، وترتيب السلامة له|، مع ما صاحب ذلك من الوقوف بوجه عتاة قريش الذين ربما سيتهمونه× بالتواطؤ مع رسول الله للمبيت في فراشه حتى لا يقتلوه فيأخذونه× بهذا الأمر ليقتلوه مكان رسول الله|، لكنه× ألقى كل تلك الاحتمالات التي من الممكن أن تتحقق وراء ظهره دون أن يعبأ بالموت، أو دون أن يهاب الموقف ـ لهو غاية الانحراف عن الحقّ، والابتعاد عنه، وتسليم زمان الحقائق واُمور الدين إلى أهواء النفس، واعنّتها وقيادها إلى رغباتها الشيطانية.
ومن هنا فإننا نقول ـ ببالغ الأسف ـ: إن أي راصد لحوادث التاريخ الإسلامي لا زال يرى حتى الآن تلك النفوس المريضة المليئة بالحقد، والتي لازالت تخيّم عليها قيم البداوة، وتتغلغل فيها عادات الجهل والظلام وتتوغل فيها؛ وهو ما يعني أن الهجرة لم تكن لتعيش في نفوسنا تلك الأبعاد الحيوية التي ينبغي أن تعيشها، والتي تتّسم بأنها ذات جانب معطاء كما أراد لها الرسول الأكرم| أن تكون.
البحث الرابع: ملحمة الهجرة والفداء
ومن خلال هذا التقرير يمكن لنا أن نذكر أن ملحمة الهجرة المشرّفة هذه قد اتّخذت ثلاثة جوانب:
الجانب الأول: مبيت الإمام× في فراشه|
وهذا الأمر كما تذكره لنا كتب التاريخ يمثل الجانب الأهمّ من هذه الملحمة الإسلامية المقدّسة حيث تلفّع× ببرد رسول الله|، وبات في فراشه وإلى جانبه سيفه، كما تقول كتب التاريخ والسير: حينما أمر الله تعالى نبيّه الأكرم محمداً| بالهجرة من مكّة إلى المدينة، قام| باتّخاذ تدابيره، والقيام بعدّة إجراءات وقائية وأمنية واحتياطية؛ للحفاظ على حياته الشريفة التي تقتضي طبيعة هذه المرحلة الحفاظ عليها؛ لتوقّف نشر الدين وتعاليم السماء عليها، كما هي إرادة السماء؛ كي يوهم من خلالها قريشاً في الوقت نفسه أنه| في بيته لم يخرج منه، ولم يهاجر.
وهنا استدعى الإمام أمير المؤمنين علياً×، وقال له: «يا علي، إن الله قد أذن لي بالهجرة، وإني آمرك أن تبيت على فراشي، وإن قريشاً إذا رأوك لم يعلموا بخروجي». فقال له الإمام×: «أو تسلم إذا نمت في فراشك يا رسول الله؟». فقال|: «نعم». فقال الإمام أمير المؤمنين×: «روحي لروحك وقاء، ونفسي لنفسك فداء يا رسول الله».
ثم أخذ× بُرد النبي| وتلفّع به، واضطجع مكانه تلك الليلة حتى انشقّ ضوء الصباح، وقريش مجتمعة خارج الدار، فأخذ الرسول الأكرم محمد| كفّاً من التراب فقذفهم به، ثم قرأ قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُـبْصِرُونَ﴾([1])، وجاوزهم، فلمّا انبلج عمود الفجر، مرَّ بهم رجل فقال لهم: ماذا تنتظرون؟ قالوا: ننتظر خروج محمد. فقال لهم: تبّاً لكم؛ لقد مرَّ محمد عليكم، وقذفكم بالتراب. وكانوا كلما أرادوا الهجوم عند انتصاف الليل وبعده، منعهم أبو جهل؛ مدعياً أنه لا يريدهم أن يروّعوا امرأة ربما تكون لا زالت يقظة، فأقبلوا بجمعهم نحو فراشه|؛ لينفّذوا أمرهم فيه، وهجموا عليه، فانبرى لهم الإمام أمير المؤمنين×، بسيفه قائلاً: «ما وراءكم؟». قالوا: علي؟ أين محمد؟ فقال×: «أوتركتموني حارساً عليه؟»([2]).
ويرسم× لنا تلك الحادثة المنقبة بريشة من نور، فيقول×: «ومضى رسول الله| واضطجعت في مضجعه، أنتظر مجيء القوم إليّ، حتى دخلوا عليَّ، فلما استوى بي وبهم البيت نهضت إليهم بسيفي، فدفعتهم عن نفسي»([3]).
وفي تلك الليلة يروي المفسرون أن الله تبارك وتعالى أوحى إلى جبرائيل وميكائيل: «إني قد آخيت بينكما، وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر، فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟». فاختار كلاهما الحياه لنفسه، فأوحى الله تعالى إليها: «إلا كنتما مثل علي بن أبي طالب؛ آخيت بينه وبين محمد، فبات على فراشه يفديه بنفسه، ويؤثره بالحياة؟ اهبطا إلى الأرض، فاحفظاه من عدوه».
فنزلا، فكان جبريل عند رأسه وميكائيل عند رجليه، فقال جبريل: «بخٍ بخٍ لك يابن أبي طالب، من مثلك وقد باهى الله بك ملائكة السماوات؟»([4]).
وقد خلدت السماء هذه اللحظة؛ حيث أنزل الله عزّ وجلّ على رسوله الأكرم| وهو متوجّه إلى المدينة في شأن الإمام أمير المؤمنين علي× قوله جلّ شأنه: ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ﴾([5]). فكانت منقبة له× لم ينلها غيره([6]).
وهنا يبادر أحد شعراء المذهب؛ ليقرّر هذه الحقيقة الناصعة، وهذه المنقبة العظيمة، فيقول:
ومناقبٌ لك دون أحمدَ جاوزت *** بمقامك التوصيفَ والتَّحديدا
فعلى الفراش مبيتُ ليلك والعِدا *** تُهدي إليك بَوارِقاً ورُعودا
فرقدتَ مَثلوجَ الفؤادِ كأنَّما *** يُهدي القِراعُ لسمعكَ التَّغريدا
ووقيتَ ليلتهُ وبِتَّ مُواسِياً *** بالنَّفسِ لا فَشِلا ولا رِعدِيدَا
رصدوا الصَّباحَ ليُنفِقُوا كنزَ الهُدى *** أَوَما درَوا كنزَ الهُدى مَرصودا
يا مُنشِئَ الأفلاكِ والأملاكِ بل *** لولاكَ ما عَرفَ الوجودُ وجودا([7])
يتبع…
_______________________
([1]) يس: 9.
([2]) الأمالي (الطوسي): 471 ـ 472 / 1031. شرح نهج البلاغة 13: 262. التفسير الكبير 5: 174.
([3]) بحار الأنوار 19: 81، 34: 291، 38: 291.
([4]) الأمالي (الطوسي) 471 ـ 472 / 1031. شرح نهج البلاغة 13: 262. التفسير الكبير 5: 174.
([6]) الأمالي (الطوسي) 471 ـ 472 / 1031. شرح نهج البلاغة 13: 262. التفسير الكبير 5: 174. قال ابن عباس: قوله تعالى: ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ﴾ إنما نزل في علي× لما هرب النبي| من المشركين إلى الغار. وهذه فضيلة لم تحصل لغيره تدلّ على أفضليته على جميع الصحابة؛ فيكون هو الإمام. وقد أورد ابن تيمية في كتابه (منهاج السنة النبوية) على هذا الحديث ثلاثة إيرادات، ظانّاً من نفسه أنه قد تمسّك بالحبل المتين، وأتى بالفتح المبين،، وعثر على كنز حصين وصيد ثمين، وفنّد الأدلّة والبراهين؛ حيث قال: «الجواب من وجوه:
أحدها: المطالبة بصحة هذا النقل، ومجرد نقل الثعلبي وأمثاله لذلك، بل روايتهم ليست بحجة باتّفاق طوائف أهل السنة والشيعة؛ لأن هذا مرسل…».
ونقول: هنا إيرادان:
الأولّ: ما أسهل ادّعاء بطلان نقل فلان وعلّان ما داما ينقلان منقبة لأمير المؤمنين×.
الثاني: الردّ على قوله: «روايتهم ليست بحجة باتّفاق طوائف أهل السنة والشيعة؛ لأن هذا مرسل»، فهو مردود؛ لأن هذا إنما يجري في الأحاديث موارد الأحكام، لا عامّة الأحاديث التي لا تردّ ما دامت لا تنافي مسلّمات الدين، سيما مع قاعدة «التسامح في أدلّة السنن». ويدخل في هذا الباب أحاديث الاعتقاد التي يؤخذ بضعيفها إن وافق اُصول الدين، ويطرح ما خالفها وإن كان صحيحاً قويّاً.
ثانيها: «أن هذا الذي نقله من هذا الوجه كذب باتّفاق أهل العلم بالحديث والسيرة، والمرجع إليهم في هذا الباب».
ونقول: أي «أهل علم بالحديث والسيرة» هؤلاء؟ هل هم من تكفّل بدسّ الأحاديث المكذوبة التي تحمل مناقب لغير أمير المؤمنين× وتحمل إساءة له×، أم من تكفّل بمحو كل طرس فيه منقبة له|؟
الثالث: «أن النبي| لما هاجر هو وأبو بكر إلى المدينة لم يكن للقوم غرض في طلب علي، وإنما كان مطلوبهم النبي| وأبا بكر… ولم يكن هناك خوف على علي من أحد، وإنما كان الخوف على النبي| وصديقه، ولو كان لهم في علي غرض لتعرّضوا له لمـّا وجدوه؛ فلمّا لم يتعرّضوا له، دلّ على أنهم لا غرض لهم فيه. فأرى فداء هنا بالنفس، والذي كان يفديه بنفسه بلا ريب، ويقصد أن يدفع بنفسه عنه، ويكون الضرر به دونه هو أبا بكر…».
ونقول: ليس القول كما ذكرت، بل في قولك تدليس ومهاترة؛ فصحيح أنه ليس للقوم غرض في طلب أمير المؤمنين×، لكن الخشية لا من هذه الجهة بل من جهة أن المشركين كانوا عازمين على قتل من في فراش رسولنا وحبيبنا الأعظم محمد بن عبد الله| ظانّين أنه هو| دون أن تكون لهم نية في أن يكشفوا عن وجهه؛ ففي هذا تفويت لغرضهم؛ ولذا فلولا أن هبّ أمير المؤمنين× في وجوههم لضربوه وقتلوه قاصدين قتل رسولنا الأكرم وحبيبنا الأعظم محمد|. إذن في المسألة فداء، وأي فداء هو؟ إنه أعظم فداء. وأكبر دليل على هذا يجبه ابن تيمية، ويلقمه حجراً قول الإمام أمير المؤمنين×:
وبتّ أراعيهم وما يثبتونني *** وقد صُبّرت نفسـي على القتل والأسرِ