الهجرة؛ ملامح نصر، ومشروع دولة ـ 17
الشيخ الدكتور أحمد الوائلي
البحث الثاني: وقفة على مناسبة الهجرة
حينما تمرّ بنا ذكرى هجرة رسولنا وحبيبنا الأعظم محمد بن عبد الله| هذه السنوات فإنها تمرّ بنا ببالغ الأسف باهتة ليس لها في نفوس المسلمين ذلك الأثر الإسلامي المرجوّ والمرتقب في نفوسهم، مع أنها مثّلت تأريخهم، ووجودهم، وشكّلت ملامح كيانهم وكيان دولتهم، وأعطته ملامحه التي ميّزته عن غيره من الكيانات الاُخرى، فنجد أن المسلمين لا يأبهون لهذه المناسبة، ولا يستقبلونها بتلك الحرارة والحفاوة اللتين يستقبلون بهما مناسباتهم الشخصية، أو بتلك الحرارة التي كانت عليها هذه المناسبة أول وقوعها حيث هاجر النبي الأكرم| وما ترتّب على ذلك من إنشاء صرح أخلاقي وديني وسياسي واجتماعي وعسكري خالد بخلود هذه الدعوة، وخلود ذكر صاحبها|.
إن المفترض بالإنسان المسلم أن يجعل من موضوع الهجرة حدثاً فريداً غير عادي، وأن يتّخذ منه حدثاً غير عادي ينبغي عليه أن يرضخ لما يمتاح منه من عوامل إيجابية تصبّ في ميدان تغيير الأخلاق إلى ما هو إيجابي، وتغيير القيم والعادات والتقاليد إلى الجهة التي تأخذ بيد الإنسان إلى ساحل الأمن والأمان.
هذا من جانب ومن جانب آخر فإن على المسلم ـ إن كان يحمل أدنى مؤهّلات احترام دينه ـ أن يستشعر أن هذه الذكرى ينبغي أن تشدّه إلى مهد الرسالة، وأن تأخذ بذهنه وعقله ونفسه وروحه وجوارحه كلّها إلى تلك البقاع السماوية، وإلى تلك الأبعاد الحضارية التي حملتها المدينة المنورة حيث أنشأ رسول الله الأكرم| هناك دولته، وحيث حملها الإسلام مبدئياً في هجرته|.
نعم ينبغي على كلّ مسلم أن يستشعر بأنها مناسبة تشدّه إلى ذلك العطاء الإلهي الخالد غير المتناهي، وإلى تلك التضحية الغالية والنفيسة التي ضحى بها النبي الأكرم| وصحابته الخلّص الكرام الذين ساهموا معه في بناء دولته المقدّسة هذه. لكننا ببالغ الأسف لا نجد من يلتفت إلى هذا الأمر، بل لا نجد عند أبناء هذه الأجيال إلّا نفوساً مريضة تبتعد شيئاً فشيئاً عن كلّ ما من شأنه أن يقرّبها إلى مظانّ الرحمة الإلهية، والأجواء الروحية، ويأخذ بيدها إلى حيث الأبعاد الحضارية لهذا الحدث الإسلامي الهامّ، فلا يسلّطون عليها الأضواء، ولا يستمتحون منها كلّ ما هو إيجابي وحضاري يساهم في تربيتهم تربية إسلامية بحتة.
البحث الثالث: بين مبيت علي× وصحبة أبي بكر
ومن مظاهر تجلّي هذا المرض النفسي الذي يخيّم على نفوس الكثير من أبناء المسلمين اليوم ما نلمسه من بعضهم وهم يتعاملون مع هذا الحدث بازدواجية مغرضة غريبة، ذلك أن هؤلاء حينما يتناولون موضوع الهجرة فإنهم يركّزون على أمر واحد فقط هو صحبة أبي بكر لرسول الله|، واختباؤه معه في الغار، ونزول القرآن عليهما في ذلك. وإذا كان في هذا فضل لأبي بكر، فإننا لا نريد أن ننكر هذا الفضل([1])، بل إننا نطلب من هؤلاء أن يتعاملوا مع الحوادث الإسلامية بعين واحدة تنظر إلى الأشياء جميعها بالمنظار نفسه، لا بعينين اثنتين، وبمنظارين؛ بحيث إنهما تنظران إلى الحادثة الكذائية ـ بوحي من هوى نفس صاحبها ـ بنظرة ما، وتنظران إلى الحادثة الكذائية الثانية بنظرة اُخرى تختلف عنها مع اجتماعهما بالفضل واتّحادهما بالفضيلة والمنقبة.
يتبع…
_______________________
([1]) مع أننا نعلم أن القرآن قد نزل بخصوص رسول الله| لا بخصوصهما كليهما فقال مقرّراً حقيقة شخص واحد: ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا فَأَنْزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ الله هِيَ الْعُلْيَا وَالله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ التوبة: 40. فالمؤيد بـ ﴿بِجُنُودٍ﴾ لا يُرَون هو الذي ﴿أَنْزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ﴾.