الهجرة؛ ملامح نصر، ومشروع دولة ـ 16

img

الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

المبحث الخامس: الهجرة مبادئ وقيم

تمتاز الهجرة المشرّفة بكونها تحرّكاً فذّاً وحسّاساً في وقت حرج من حياة الدعوة، واُنموذجاً فريداً وناجعاً في حياةالمجتمعات البشرية كلّها فضلاً عن تاريخ المجتمعات الإسلامية، وهذا ما سوف نلاحظه من خلال الأبحاث التالية:

البحث الأول: في مبدأ التاريخ الهجري

إننا نعرف أن الهجرة المشرفة قد حدثت في الثاني عشر من شهر ربيع الأوّل([1])، لكننا حينما نرجع إلى تاريخنا الهجري فإننا نجد أنه يبتدئ في اليوم الأول من شهر المحرم الحرام. والسبب في هذا يرجع إلى أن المسلمين حينما أرادوا أن يوثّقوا تعاملاتهم الاقتصادية، وإجراءاتهم التجارية، ومسائلهم الشخصية، احتاجوا إلى تاريخ يوثّقوا به هذه التعاملات. ونحن من جهة اُخرى نعرف أن العرب لم يكن لهم تأريخ ثابت يرجعون إليه كما هو الحال الآن مثلاً في التأريخين الميلادي والهجري، وغيرهما من أنماط التأريخ المعروفة في العالم المتحضّر اليوم، بل إنهم كانوا يؤرّخون بالحوادث المشتهرة عندهم، والمناسبات الكبيرة التي تطالعهم أو التي تحدث بينهم، كما هو الحال مع تأريخهم بموت الحارث بن هشام، أو بواقعة الفيل، أو بحرق الكعبة، أو بموت كبير من كبرائهم وما إلى ذلك.

لكن حينما عزم المسلمون على أن يحدثوا لهم تاريخاً خاصّاً بهم، اجتمعوا لهذا الغرض عند الخليفة الثاني، وراحوا يتساءلون عن أي شيء يمكن أن يؤرّخوا به، وأي زمن يمكن أن يجعلوه مبدأ تأريخهم هذا. ذلك أنه رفع إلى عمر صكّ مكتوب لرجل على آخر بِدَين، يحل عليه في شعبان. فقال: أي شعبان؟ أمن هذه السنة، أم التي قبلها، أم التي بعدها؟ ثم جمع أصحاب النبي الأكرم|، فقال: ضعوا للناس شيئاً يعرفون به حلول ديونهم. وهنا أدلى بعض الجالسين بدلوه في المقام طالباً بأن يؤرّخ بالشيء الكذائي أو الشيء الكذائي، فأراد الهرمزان أن يؤرّخوا كما تؤرّخ الفرس بملوكهم، كلما هلك ملك أرخوا من تاريخ ولاية الذي بعده، فكرهوا ذلك، فقال بعض مسلمي اليهود: أرّخوا بتاريخ الروم، من زمان إسكندر، فكرهوا ذلك؛ لطوله، وقال آخرون: أرّخوا من مولد رسول الله|. وقال آخرون: من مبعثه.

أمير المؤمنين× ومبدأ التاريخ

وكان الإمام أمير المؤمنين× حاضراً ساكتا، فقال له الخليفة عمر: قل رأيك يا أبا الحسن. فأشار× وآخرون معه من الصحابة عليهم بأن يحتكموا إلى واقعة في تاريخ الإسلام هامّة جدّاً وكبيرة، وقد مثّلت نقلة نوعية نفسية واجتماعية واقتصادية على مستوى الفرد والمجتمع والاُمّة في تاريخ الإسلام ألا وهي هجرة الرسول الأكرم محمد|، آمراً إيّاهم بأن يجعلوا سنة مهاجره| إلى المدينة مبدأ لهذا التأريخ؛ لظهور أمر الهجرة لكلّ أحد، فإنها أظهر من المولد والمبعث. فاستحسن عمر والصحابة هذا، وأمرهم أن يؤرّخوا من هجرة رسول الله|.

فكان ما أراده أمير المؤمنين× وما أمر به، فجعلوا سنة هجرة النبي الأكرم| مبدأ التأريخ، وجعلوا الشهر المحرم أول شهور السنة، وأول أيامه أول أيامها.

يتبع…

____________________

([1]) الموافق للسادس عشر من سبتمبر عام 622م.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة