المعرفة الحقة

img

زينب آل مرهون

بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين..

روي عن الإمام الصادق× أنّه قال: «مَنْ زَارَ قَبْرَ الْحُسَيْنِ× عَارِفاً بِحَقِّهِ كَانَ كَمَنْ زَارَ اللهَ فِي عَرْشِه». (كامل الزيارات: 149)

كما ورد أيضاً في زيارة الإمام الرضا× وغيره من الأئمة^ أنّ من زاره عارفاً بحقه وجبت له الجنّة.

فما معنى المعرفة هنا حيث تكون للزائر هذه الدرجة الرفيعة؟

معنى المعرفة

المعرفة من العرفان في مقابل العلم، والفرق بين العلم بالمعنى الأعم والمعرفة هو أنّ المعرفة عبارة عن إدراك الجزئيّات، والعلم عبارة عن إدراك الكلّيّات، وقيل إنّ المعرفة تصور، والعلم تصديق.

ولذا يقال: كلّ عالم عارف وليس كلّ عارف عالم، فالعلم يهتم بالكلّيّات، والمعرفة تهتم بالجزئيّات، فيُطلق إحاطة بالكلّيّات والجزئيّات، والله تعالى محيط بالكليات والجزئيات، فيطلق عليه عالم ولا يطلق عليه عارف، فالمعرفة إذن هي أسّ الكمال لكل قابل لها، لأنّ المعرفة مختصّة بمن له إدراك دون سواه.

والمعرفة على ثلاثة أنحاء: جلالية وجمالية وكمالية.

ونذكر مثالاً لتقريب المعنى.

إنّك لو رأيت جبلاً عن بُعدٍ فإنّك ستعرفه بحدوده، وإنّه ليس شجراً ولا حيواناً ولا إنساناً وإنّما هو جبل، فهذه المعرفة يقال لها معرفة جلالية، ولكن لو اقتربت منه ورأيت جماله وصلابته وشموخه فهذه معرفة جمالية، وعندما تصعد عليه وترى كنهه وواقعه فهذه معرفة كمالية، وهكذا معرفتنا نحن للأئمة الأطهار^.

وقد ورد في الزيارة الجامعة: «ما من وضيع ولا شريف ولا عالم ولا جاهل إلاّ عرف جلالة قدركم» أي حتى عدوّهم يشهد بفضلهم لأنّه يعرفهم معرفة جلالية، وهناك من يعرف أمير المؤمنين والإمام الحسين’ بمعرفة جمالية، فلذلك استحق سلمان أن يكون من أهل البيت^ فقالوا في حقه «سلمان منّا أهل البيت».

فتراه ملازماً لأمير المؤمنين×، فكلّما دخل الأصحاب المسجد وجدوا سلمان بجوار مولاه يشرب من معينه الصافي، فاتفقوا على أن يسبقوا سلمان إلى أمير المؤمنين× فبكروا بالمجيء وفعلاً لم يجدوا في الطريق إلاّ آثار أقدام الإمام× ففرحوا بذلك، ولكن عندما وصلوا المسجد وجدوا سلمان جالساً عند أمير المؤمنين× فتفاجؤوا فقالوا: يا سلمان من أين أتيت؟ أنزلت من السماء أم خرجت من الأرض؟

فقال سلمان: إنّما جئت من حيث جئتم. فقالوا: فأين آثار أقدامك؟ فقال: إنّي لمّا رأيت أقدام أمير المؤمنين× وضعت أقدامي عليها لأنّي أعلم أنّه لا يضع قدماّ ولا يرفعها إلاّ بحكمة وعلم.

هكذا يعرف سلمان مولاه وهكذا يقتفي أثره، فمعرفة سلمان بالإمام معرفة جمالية.

وهناك معرفة أخرى لأمير المؤمنين والإمام الحسين’ وهي المعرفة الكمالية، وهذه منحصرة بالله تعالى ورسوله حيث صرّح بذلك النبي‘ بقوله: «يَا عَلِيُّ مَا عَرَفَ اللهَ إِلاَّ أَنَا وَأَنْتَ، وَمَا عَرَفَنِي إِلاَّ اللهُ وَأَنْتَ، وَمَا عَرَفَكَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَا». (بصائر الدرجات: ٣٣٦)

والسبب واضح وهو أنّه لا يعرف حقيقة الولي والحجة وباطن أمير المؤمنين× إلا من كان محيطاً بذلك تمام الإحاطة.

فعلى هذا الكلام تكون معرفتنا نحن بالأئمة^ معرفة جماليّة لا كمالية، فكلّما ازدادت معرفتنا بهم زاد حبُنا لهم، وإذا زدنا حباً زدنا أدباً، ومن خلال الأدب والحب نزداد علماً ونوراً في ساحتهم وروضتهم، لأنّ العلم ليس بكثرة التعلم وإنّما هو نور يقذفه الله في قلب من يشاء.

وقال النبي عيسى على نبيّنا وآله وعليه السلام: «ليس العلم في السماء حتى ينزل إليكم ولا في الأرض فيخرج لكم وإنما هو في قلوبكم، فتخلّقوا بأخلاق الرّوحانيين يظهر لكم».

وهو نظير قول النبي‘: «مَنْ أَخْلَصَ للهِ أَرْبَعِينَ يَوْماً فَجَّرَ اللهُ يَنَابِيعَ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ». (عدة الداعي ونجاح الساعي: ٢٣٢)

فلابد للإنسان الذي يريد الترقّي في سُلّم الكمال من المعرفة فإنّ الفضل بالمعرفة (أفضلكم أفضلكم معرفة) وهي التي تقود إلى العبادة الحقة الخالصة، ومن هنا صار نوم العالم أفضل من قيام الجاهل لأنّ قيمة الإنسان بالمعرفة.

ولهذا فالواجب على شيعة أهل البيت^ أن يزدادوا معرفة بأهل البيت^ ومعرفة كلامهم وأدعيتهم وزياراتهم، لأنّ الزيادة في معرفتهم^ تمنح الإنسان الأدب والخضوع والخشوع والمودّة والإطاعة، ومن ثَمَّ ينال الإنسان القرب من الله ويفوز بسعادة الدارين.

ومن هذا المنطلق تعتبر زيارة أربعين الإمام الحسين× خطوةً في طريق معرفة أئمة أهل البيت^.

فبهذه المعرفة يزداد الإنسان عملاً فقد جاء في الحديث الشريف: «المعرفة تدل الإنسان على العمل والعمل على المعرفة».

وعن الإمام الصادق× قال: «لاَ يَقْبَلُ اللهُ عَمَلاً إِلاَّ بِمَعْرِفَةٍ وَلاَ مَعْرِفَةَ إِلاَّ بِعَمَلٍ فَمَنْ عَرَفَ دَلَّتْهُ الْمَعْرِفَةُ عَلَى الْعَمَل…». (الكافي الشريف: ١/٤٤)

فعلى هذا القول يتضح لنا أنّ هناك ارتباطاً وثيقاً بين معرفة الإنسان وبين عمله فالمعرفة الجلالية هي المعرفة التي يعرفها الوضيع والشريف والجاهل والعالم، تجد الجميع عندما يدخل حرم الإمام الحسين× يعظّمه ويحترمه حتى ولو كان إنساناً غير متأدّب بالآداب الدينية، فتراه يُقبِّل الضريح والباب حبّاً وتعظيماً ولكن هذه الزيارة السطحيّة غير كافية في أن تمنع هذا الإنسان من المعصية، لأنّها بنيت على معرفة جلالية لا جمالية.

ولذلك تجد الرجل المسيحي عندما يكتب عن أمير المؤمنين× وغيره ممن كتبوا عن الحسين× ويعرف أنّ علياً× رجل عظيم شديد العدل، ولشدّة عدله قُتل في المحراب، لكنه لا يترك مسيحيّته ولم يتمسّك بنهج علي× مع أنّه يعترف بعظمة الإمام علي وسموّه وجلاله، لأنّ معرفته بالإمام معرفة جلالية، فلا يوالي أمير المؤمنين× في عقيدته ولا يقتدي به في سلوكه وأفعاله، فهذا دليل على أنّ معرفته لم تصل إلى رتبة المعرفة الجمالية التي لها الأثر الكبير في علاقة العارف بأهل البيت^.

فهكذا معرفة البعض بالإمام الحسين× فإنّه يعرفه حق المعرفة بأنّ له الدور الكبير في إحياء الدين، وأنّه ابن رسول الله، وضحى بكل ما لديه لأجل الدين وهداية البشرية.

ولكن مع ذلك لا يتورّع عن النظر إلى المرأة الأجنبية وهو في حرم الإمام الحسين×، فهذا دليل على أنّه لا يرى للحرم حُرمةً ولا يراه شريفاً وإلاّ كيف يجرئ على المعصية، فهذا ينطبق على كل عارف بالإمام الحسين× معرفة جلالية، فإنّها غير كافية عن منعه عن ارتكاب المعصية.

فمعرفة الحسين× ومعرفة الأمر المخصوص له كما ورد عن الصادق× حينما قال في وصف جده×: «قد أكرمته بالشهادة وحبوته بالسعادة واجتبيته بطيب الولادة»، فيها أمور منها خصوص كرامة الحسين× بالشهادة، فما الشهادة وما كرامتها؟

الشهادة عند علماء العرفان لها ثلاث مراتب: شهادة تنزيلية، وشهادة حقيقية، وشهادة حقيقية حقة.

الدرجة الأولى: الشهادة التنزيلية.

هي أن يعطى الإنسان ثوابَ الشهداء، فمن مات في طريق الحج مثلاً مات شهيداً، أي: يعطى ثواب الشهداء. ورد عن النبي‘: «من مات على حب آل محمد مات شهيداً»، أي: يعطى ثواب الشهداء.

الدرجة الثانية: الشهادة الحقيقية.

هي إعطاء الإنسان الذي يُقْتَل في سبيل الله مقام الشهود على الأمة الإسلامية، الإنسان عندما يُقْتَل في سبيل الله، فهو ما بذل نفسه في سبيل الله إلا لأجل أنه مصلحٌ للأمة، انطلق للقتل بدافع الرقابة على مسيرة الأمة، والرقابة على خط الأمة الإسلامية، فإذا مات وقُبِضَت روحه يعطيه الله مقام الشهود، بمعنى أنَّ روحه تبقى مرفرفة على الأرض، تنظر إلى الأمة كيف عملها، كيف مسيرتها، كيف نتائجها، كيف عواقبها، الشهيد قبل أن يُقْتَل كان شهيداً على الأمة، ولذلك هو يقاتل في سبيل الله، وبعد أن يُقْتَل يبقى على ما كان عليه قبل موته، كان قبل موته يراقب مسيرة الأمة، ويحاول أن يصلحها بدمه وجراحه، وبعد أن يُقْتَل يبقى على هذا المقام، يعطيه الله مقام الشهود، تبقى روحه مرفرفة تراقب مسيرة الأمة الإسلامية، ولذلك سمّي شهيداً وشاهداً، لأنه يراقب مسيرة الأمة حياً وميتاً.

الإمام أمير المؤمنين عندما حاز شرف الشهادة الحقيقية لم يتغير وضعه، كان رقيباً على الأمة في حياته، وبعد موته هو مراقبٌ أيضاً لأوضاع الأمة بروحه التي ترفرف، ولذلك القرآن يقول: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً﴾، الأموات الآخرون تنفصل أرواحهم وتذهب إلى عالم آخر، وأما الشهداء فأرواحهم ترفرف وتراقب أحوال الأمة.

الدرجة الثالثة: الشهادة الحقيقية الحقة.

الشهادة الحقة هي أن يعطى الإنسان شهادةً شموليةً، ليست روحه تشهد فقط، بل جميع ما يتعلق به يكون شاهداً، كيف؟ تعال للحسين بن علي: الحسين بن علي قُبِضَت روحه بعد أن قُتِل، روحه بقيت ترفرف على الأمة الإسلامية وتراقب مسيرتها، لكن الشهادة ما أعطيت لروح الحسين فقط، بل كل ما يرتبط بالحسين أعطي شهادةً، تربته تشهد، رأسه يشهد، قبره يشهد، ذريته تشهد، الحسين أعطي شهادةً شموليةً، كل ما يرتبط بالحسين فهو شاهدٌ.

رأسه بقي أربعين يوماً يراقب المسيرة كلها، ويشهد على كل ما رأى، ويشهد على كل ما حصل، فرأسه أعطي مقام الشهادة. وتربته أعطيت مقام الشهادة، لماذا يقال: يستحب السجود على تربة الحسين؟ تربة الحسين تشهد على كل من سجد عليها، تربة الحسين تشهد على كل من توسّل بها، كل من تبرّك بها. كذلك أيضاً قبره، قبره شهيدٌ على هذه الملايين التي تزحف عليه منذ يوم مقتله وإلى يومنا هذا، كم مليوناً وفد على قبره منذ ذلك اليوم إلى هذا اليوم؟! قبره يشهد هؤلاء الملايين الزاحفة، ويكون شهيداً على عملها يوم القيامة. ذريته: الله جعل الإمامة في ذريته، تسعة أئمة من أولاده بقوا شهداء على الأمة، ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾. إذن، الحسين رأسه يشهد، روحه تشهد، قبره يشهد، ذريته تشهد.

ووراء هذه الشهود كلها دمه، دمه يشهد يوم القيامة، هو الوحيد من بين الشهداء الذي يشهد دمه يوم القيامة على ما رأى من مسيرة الأمة. أنت تقرأ في زيارة الحسين: «أشهد أن دمك سكن في الخلد»، لماذا سكن في الخلد؟ ليعطى مقام الشهادة. وأنت تقرأ في مصيبة الحسين: فرفع دمَه إلى السماء فما رجعت منه قطرةٌ. إذن، رأسه شاهد، تربته شهادة، قبره شاهد، ذريته شهود، دمه يوم القيامة يشهد، إذن الحسين أعطي درجةً من الشهادة لم تعط لأحد، لا لنبي ولا لرسول ولا لوصي، أعطي درجةً من الشهادة شهادةً شموليةً نسمّيها بالشهادة الحقيقية الحقّة، كل ما يرتبط بالحسين فهو شاهدٌ. لذلك، كان الحسين سيد الشهداء، لأنه أعطي مرتبةً لم تعط لغيره، «أكرمته بالشهادة».

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة