الهجرة؛ ملامح نصر، ومشروع دولة ـ 15
الشيخ الدكتور أحمد الوائلي
مفهوم المؤاخاة في العصر الحاضر
ولو أننا أردنا الآن أن نؤاخي بين شخصين أحدهما شريف كشأن الحمزة ابن عبد المطّلب مثلاً،ً والثاني عبد كبلال، أو بين شخصين أحدهما ثري ثراء فاحشاً أو مليونير أو ملياردير، والآخر فقير معدم، فهل بالإمكان أن نحقّق هذا الأمر الإنساني البعيد الغور في عالم الأخلاق؟ وهل يمكن أن نجري ونرتب آثاراً عليهما كتلك الآثار التي رتّبها النبي الأكرم| على المتآخين من المهاجرين والأنصار؟
بطبيعة الحال إن هذا لا يمكن أن يحصل أبداً؛ ذلك أن طبيعة الإنسان في العصر الحاضر تختلف عنها في تلك العصور سيما مع ابتعاد الإنسان الحاضر عن القيم والأخلاقيات والأدبيات الدينية في تعاملاته المالية، بل كلّ ممارساته الحياتية، وتوغّله بعالم المادة ودهاليزها وقوانينها ونظمها، بل الانصهار انصهاراً تامّاً مع مبادئ المادّة، مع أننا نعلم أنه ليس هنالك من فرق بين هذا الثري وذاك الفقير، أو هذا الشريف وذاك الإنسان العادي، أو المسحوق؛ إذ إن هذا لا يمكن اعتباره عاملاً من الممكن أخذه في هذا الباب، وذلك لسببين:
الأول: أن هذه الاُمور إنما هي اُمور اعتبارية خارجة عن إرادة الإنسان من الممكن أن تسلب من الإنسان بين لحظة واُخرى، فيصبح الغنيّ فقيراً والفقير غنياً، ويصبح الشريف وضيعاً والوضيع شريفاً، كما هو الحال مع بني اُمية وبني العباس بعد سقوط دولتيهم، فانتقلوا من حال العزّ والرفعة إلى حال الذلّ والهوان، ومن موقع الآمر إلى موقع المأمور المتذلّل المتخفّي عن أعين الرقابة والسلطة؛ خشية الموت.
الثاني: أن هذين ـ الشريف والوضيع، والموسر والفقير ـ كليهما سيموتان؛ فيخلّف الأول ما خوّله الله إياه، ومنحه إجازة التصرف فيه: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ﴾([1]). نعم إنه ليس من السهل ولا بالهيّن بمكان أن يطوّع إنسان ما ـ أيّا كان ـ إنسانا آخر، ويريد منه ـ سيما اُولئك الأثرياء والموسرين الذين يكونون على هذا المستوى المالي المفرط ـ أن يكون كافلاً للفقير، بل إخاً له؛ يقاسمه أمواله وبيته وممتلكاته.
لكن النبي الأكرم| قد فعل كل هذا في المدينة المنورة، ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ؛ ذلك أن الإنسان الأنصاري لم يكن ليكتفي بهذا المقدار الذي أمرت به السماء، فكان يستقبل المهاجرين ويقتسم معهم كل ما يملك من بيت وأدوات، وأموال وممتلكات عن طيب نفس، ورضا وتسليم كاملين واختيار تامّ لله تبارك وتعالى، بل إن الأنصاري كان يتنازل عن إحدى زوجتيه للمهاجر، فيطلّقها ليتزوّج منها بعد أن تتمّ عدّتها.
فهل من الممكن أن نجد شيئاً من هذا اللون من التعامل عند أحد في عصورنا المتأخّرة هذه، والتي تقوم على أساس النفع المادّي، والمصلحة الآنية؟ إن هذا ما لا يمكن أن يجده إنسان إلّا في مدرسة الرسالة.. مدرسة السماء التي يديرها رسول الله|.. المدرسة الضخمة التي سجل لنا التاريخ عنها كلّ هذا العطاء، وكل هذه الامتيازات.
ومن هنا فإنه يحقّ لنا أن نعتزّ كلّ الاعتزاز، وأن نذهب إلى اعتبار أن الهجرة على البعد النفسي هي أفخم منها على صعيديها الآخرين ـ أعني الزماني والمكاني ـ لما تمخّض عن هذا الأمر المستحدث في تاريخ البشرية دون أن تشهد له مثيلاً في مكان آخر ـ وهو الهجرة ـ من مفاهيم وقيم وأخلاقيات جديدة ارتقت بالإنسان المسلم، وطلعت به إلى مصافَّ عليا لا يمكن أن يصل إليها أحد غير من تمرّس بهذا الدين الجديد.
يتبع…
__________________