الهجرة؛ ملامح نصر، ومشروع دولة ـ 13
الشيخ الدكتور أحمد الوائلي
اُنموذجان من المؤاخاة
وهذا التجسيد الرائع لنظم السماء التي تكفّلت بمعالجة هذا الجانب سوف نلاحظه من خلال تناولنا اُنموذجين من نماذج المؤاخاة الإلهية هذه بين المسلمين، وهي:
الأول: المؤاخاة بين الحمزة وبلال
يحدّثنا التاريخ وكتب السير أن نبينا الأكرم| حينما أمره الله سبحانه وتعالى بأن يشرع في المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار آخى ـ من ضمن من آخى بينهم ـ بين الحمزة بن عبد المطلب سيد البطحاء وشريف أشراف مكّة فضلاً عن أن الحمزة نفسه كان لا يجارى ولا يبارى شرفاً وشجاعة وقوة، وبين بلال الحبشي العبد الذي لا يعتبر وجوده وجوداً عند المشركين عامّة أو عند أبناء المجتمع المكّي خاصة. وهذا الأمر إن دلّ على شيء فهو إنما يدلّ على أن هنالك عملية انتقال نفسية ضخمة جدّاً قد أحدثتها حركة الرسول الأكرم| الميدانية داخل المجتمع المهاجر، والمجتمع المستقبل والمناصر، بحيث إنهم يرضون أن يؤاخوا واحداً يرون أنه من أدنى طبقات المجتمع لا لشيء إلّا لأن الإسلام الحنيف، وإرادة السماء المقدسة قد شاءا لهم ذلك، وأمراهم به، فاقتنعوا به بعد أن ذوّب ما فيهم من رواسب قبلية وعادات جاهلية وتقاليد ظلامية كانت تبسط خيمتها، وتفرض وجودها على تصرّفات الإنسان البدوي قبل الإسلام.
وهذا ينبئنا عن عمل عظيم وضخم جداً سيّما إذا ما عرفنا أنه ليس من الهيّن على الإنسان أن ينتقل من قيمه التي درج معها، وشبّ وربي عليها، فتواشجت مع عقله، وامتزجت مع روحه، وسرت في نفسه وجسمه سريان الدم فيه ليغرز مكانها قيماً اُخرى تستبدل بتلك القيم الجاهلية هذه القيم الإنسانية السماوية الجليلة.
الثاني: مؤاخاته| بينه وبين أمير المؤمنين×
وإذا كان الاُنموذج الأول من المؤاخاة ينمّ عن اهتمام الاسلام بمسألة تذويب الفوارق الطبقية والاجتماعية بين الأفراد من أبناء المجتمع الواحد، أو بين أبناء الطبقات داخل المجتمع نفسه، والاهتمام بالحالة النفسية للإنسان المسلم، فإن هذا الاُنموذج ينبئنا وينمّ لنا عن مدى اهتمام النبي العظيم| بشخصية إنسان فذّ عظيم ذي بذل نفسه فداء للإسلام، ولنبي الإسلام منذ أن بعث الله تبارك وتعالى نبيه محمداً| في مكّة المكرّمة وحتى اختياره إياه إلى قربه في المدينة المنورة. يروي المؤرخون عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب× لمّا آخى نبيّنا الأكرم| بين المسلمين جميعاً وتركه× وحده قوله: «جئت وعيناي تطفحان دموعاً، فقلت: يا رسول الله، أراك آخيت بين أصحابك وتركتني؟ قال: إنما ادّخرتك لنفسي، أنت أخي في الدنيا والآخرة»([1]).
وهذا الموقف يمتاح منه أحد الأدباء صورة أدبية رائعة يسطر من خلالها تفرّد الإمام أمير المؤمنين علي× بخصال جعلت منه الشخص المناسب لمؤاخاة الرسول الأكرم|:
لو رأى مثله النبيّ لآخـا *** ه وإلاّ فأخـطأ الانتقادُ([2])
ثم ينبري عبد الباقي العمري & فيخاطبه بالقول:
يا أبا الأوصياء أنت لطه *** صهره وابنُ عمّه وأخوهُ
إن لله في معانيك سرّاً *** أكثر العالمين ما عرفوهُ
أنت ثاني الآباء في منتهى الدو *** ر وآباؤه تُعدّ بنوهُ
خلق الله آدماً من تراب *** فهُوَ ابنٌ له وأنت أبوهُ([3])
يتبع…
___________________________
([1]) أورد المؤرّخون والمحدّثون هذا الحديث بطرق كثيرة وصيغ مثلها، انظر الطبقات الكبرى 3: 22. المعجم الكبير 11: 63. تاريخ مدينة دمشق 43: 8. كنز العمّال 11: 598 / 32879، 608 / 32939، 610 / 32955، 13: 140 / 36440.