الهجرة؛ ملامح نصر، ومشروع دولة ـ 12
الشيخ الدكتور أحمد الوائلي
حكم السفر المحرم
وبناء على ما مر فإننا نجد أن الإسلام قد وضع للسفر مدلولاً جديداً، ومعنى مبتكراً يبتعد عن طبيعة الأسفار التي كان يمارسها الإنسان الجاهلي، ولذا فإنه حينما شرع القصر في السفر فإنه إنما شرعه للمسافر سفراً مباحاً، فضلاً عن السفر الواجب أو المستحب، أما السفر غير المباح وهو السفر المحرم فإن الإسلام لا يرضى من ذلك الإنسان المسافر بالقصر؛ حيث لم يشرعه له.
وانطلاقاً من هذا فلو أن إنساناً مصلياً سافر من أجل قتل إنسان مؤمن، أو لأجل صيد اللهو، لا صيد الاعتياش، فإن سفره هذا يعتبر سفراً محرماً من وجهة نظر المشرع الإسلامي الأقدس؛ وبناء عليه فإنه لا يحق له أن يقصر في صلاته، ولا أن يفطر في صيامه، بل إن عليه أن يتم ويصوم؛ استناداً إلى قاعدة التلازم بين الإفطار والقصر من جهة، وبين الإتمام والصيام من جهة اُخرى.
ومن هنا فإننا نجد أن جانب السفر في الإسلام قد اتّخذ أبعاداً اُخرى غير تلك الأبعاد التي كان عليها أهل المجتمعات الجاهلية.
المظهر الثاني: المؤاخاة
إننا ننعي أن المسلمين الذين هاجروا من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة هاجروا خفية وخلسة خوفاً من عيون عتاة قريش وجواسيسهم الذين بثّوهم هنا وهناك من أجل رصد حركة كل من يشكّون أنه قد انضمّ إلى هذا الدين الجديد، وانتظم في سلكه، أو أنه قد صبأ إليه كما كانوا يعبرون عنه. وبهذا فإنهم قد ارتحلوا إلى المدينة المنورة دون أن يصطحبوا معه شيئاً مما يقيم حياتهم من مال أو طعام أو فراش، أو ما إلى ذلك. الأمر الذي يعني أن هؤلاء الأفراد إذ هاجروا، فإنهم هاجروا فقراء معدمين لا يملكون شيئاً من حطام الدنيا، ولا أي مقوم من مقومات الحياة فيها. وانطلاقاً من هذا الوضع كان لزاماً أن توفِّر لهم مستلزمات حياة حرة كريمة يعيشونها بعيداً عن إذلال نفس الإنسان المسلم، أو مدّ يده لاستجداء غيره، واستعطائهم واستعطافهم.
وبناء على هذا التحوّل الجديد ارتأت حكمة السماء أن تشرّع أمراً آنيّاً تكفل لهؤلاء من خلاله هذه الحياة، وتضمن لهم كلّ موارد احتياجاتهم، وما يستطيعون من خلاله أن يعيشوا بشكل يبعدهم عن إذلال النفس إلى الآخرين. من هنا كانت الضرورة الملحّة لتشريع المؤاخاة الذي كفلت السماء من خلاله لهؤلاء كل مستلزمات حياتهم الجديدة وفق ما تتطلّبه ظروف هذه المرحلة من هذه الحياة التي ولجوها في المدينة المنورة. وهي حياة كما نعرف ذات أبعاد خاصّة تختلف اختلافاً كبيراً، وتفترق افتراقاً واسعاً، وتتميز جملة وتفصيلاً عن تلك الحياة التي كانوا يعيشونها إبّان حقبة الدعوة في مكة المكرمة.
هكذا كفل لهم الإسلام بهذا التشريع المال الذي يستطيعون من خلاله أن يأكلوا ويشربوا، والمسكن الذي يستطيعون من خلاله أن يتّقوا كل ظروف الطبيعة والجو والمناخ، وكذلك مستلزمات الحياة الأخرى.
وهذا الإجراء الذي يجسّد التطبيق الميداني لذلك التنظير الإلهي يعني تذويب المفاهيم الجاهلية كافّة، وصهر القيم العنصرية والقبلية من نفوس أولئك المسلمين عامّة، واستبدال قيم إلهية سماوية محلّها، بل إنه سعي من النبي| من أجل تحقيقه منذ السنة الاُولى من الهجرة النبوية المشرّفة. ونحن لا ندّعي أن هذا الأمر قد امتثل له جميع المسلمين، بل إن بعض المسلمين ـ وإن كانوا قلّة قليلة لا يمكن القول بأنها تشكّل قاعدة عريضة ـ قد بقوا على جذورهم القبلية والعنصرية دون أن يسعوا إلى أن يتخلّصوا منها، ويجسّدوا هذه المفاهيم والقيم الإلهية الجديدة؛ ذلك أنهم أساساً غير قادرين على أن يتخلّصوا من تلك المفاهيم البالية.
وكمثال على هذا ما يذكره المؤرّخون عن وائل بن حجر الحضرمي الذي كان من أقيال اليمن وملوكها، فيروون عنه أنه قد أسلم طائعاً، وجاء إلى الرسول الأعظم| في المدينة المنوّرة ليشهر إسلامه، لكنه كان يمتنع عن الصلاة جماعة مع المسلمين، فقال له بعض من أسلم: يا وائل، ما لك لا تحضر الجماعة، وتصلّيها معنا؟ فقال: أصلّي معكم حتى يزاحمني البقّالون والحمالون؟([1]).
وهذا يعني أن هؤلاء لم يتمكّن التغيير من نفوسهم فيخلّصها من رواسب الجاهلية البغيضة، ومخلّفات الطبقية المقيتة، ولم يستحكم عقولهم وتوجّهاتهم، فكان أن بقوا يمارسون حياتهم اليومية بوحي وتأثير واضحين وكبيرين من خلفياتهم الثقافية المنبثقة عن معتقداتهم وقيمهم وتقاليدهم البدوية والجاهلية. وهذا على العكس تماماً مما أراده الإسلام من خلال هذه الممارسة النوعية الفذّة المتمثّلة بالمؤاخاة بين المسلمين، حيث آخى رسول الله| بين من كان يعتبر في الجاهلية من أشرف أشراف القوم، وبين من كان يعدّ فيها عبداً خادماً لا قيمة له ولا وجود.
يتبع….
_______________________
([1]) لم نعثر عليه هكذا عن وائل هذا، بل هو في مظانّه عن الحجاج بن أرطاة. انظر المجروحين 1: 225. ربيع الأبرار ونصوص الأخبار (الزمخشري) 4: 189. التذكرة الحمدونية 3: 109. المستطرف في كل فن مستظرف 1: 228. وما وجدناه عن وائل بن حجر ما روي من أنه أتى إلى النبي|، فأقطعه أرضاً، وقال لمعاوية: «اعرض هذه الأرض عليه، واكتبها له». فخرج معه معاوية في هاجرة شديدة، ومشى خلف ناقته، فأحرقه حرّ الشمس، فقال له: يا وائل، إن الرمضاء قد أصابت باطن قدي، فأردفني خلفك. فقال: ما أضن عليك بهذه الناقة، ولكن لست من أرداف الملوك، وأكره أن اُعيَّر بك. قال: فألقِ إليّ حذاءك أتوقّى به من حر الشمسّ قال: ما أضن عليك بهاتين الجلدتين، ولكن لست ممّن يلبس لباس الملوك، وأكره أن اُعيَّر بك، وأكره أن يبلغ أقيال اليمن أنك لبست نعلي، ولكن امشِ في ظلّ ناقتي فحسبك بها شرفاً. انظر: المعجم الصغير 2:، 144. المعجم الكبير 22: 47. الطبقات الكبرى 1: 349.