الهجرة؛ ملامح نصر، ومشروع دولة ـ 09
الشيخ الدكتور أحمد الوائلي
الثانية: الرقابة الاجتماعية
وهذا الأمر يتبين لنا أكثر من خلال بيان نقطة هامة جدّاً تتميّز بها المجتمعات المدنية؛ ذلك أن من طبيعة الإنسان في المجتمع المدني الذي يجاور فيه اُناساً آخرين لفترات طويلة تربطه بهم علاقات وتزاور وتبادل هدايا، وتهنئة في مواسم التهنئة، أو في مناسبات فرح، أو تعزية في مناسبات حزن ـ وبوجيز العبارة: إن هنالك اختلاطاً واضحاً وبيّناً بينهما ـ إنه يستحي من أن يفعل أي شيء فيه منقصة أمام جاره، أو أي أمر فيه قبح، أو سمة من سمات عدم القبول؛ سواء كان عدم القبول هذا على الصعيد الشرعي الديني، أو على الصعيد العرفي الاجتماعي.
وهذا يعني أن هذا الإنسان يمتنع عن فعل كلّ ما من شأنه أن يعيبه ويوهّنه، ويوهّن شخصيته أمام هؤلاء؛ نتيجة وقوعه تحت تأثير عامل الرقابة الاجتماعية التي تنحدر منها وتصدر عنها كلّ تصرفاته وأفعاله التي تنطبع بطابع المجتمع.
أما إذا لم يكن هنالك أي ارتباط بين الإنسان وبين الآخر برابطة الجوار، فلا تبادل تحية أو كلام أو تزاور أو ما إلى ذلك مما أشرنا. وبعبارة اُخرى أوجز: إن العلائق الإنسانية تكاد تكون معدومة، وهي تبتعد عن جو الخلق الذي يحدّد طبيعة العلاقة التي ينشأ منها الجوار، فلا جار يراقب، ولا قيم تحكم، ولا ضابط اجتماعي يفرض وجوده على الإنسان، فإنه من الممكن ألّا يخجل من يأتي بشيء معيب أمام ذلك الإنسان الذي يراه قبيله، أو أن يأتي بأي شيء مستقبح؛ لأنه هنا يشعر بأنه متحرّر من عامل الرقابة الاجتماعية، ويفتقر إلى النظام الذي يحكم تصرّفاته داخل المجتمع.
الثالثة: تقبل المعلومة وعدمها
وهذه النقطة هامّة جدّاً، بل إنها أهم من النقطتين السالفتين بكثير؛ كونها تمثّل العامل الأساس في التفريق بين البيئتين البدوية والحضرية. إن المعروف الثابت بالدليل والبرهان، بل بالنفس والوجدان هو أن البيئة البدوية لا تستطيع أن تتقبّل النصح والإرشاد والتغيير إلى ما هو أحسن، إن لم نقل: إنها لا تتقبل ذلك مطلقاً، أو تتقبّله لكن بعد عسر ولأي ومشقّة.
ومثال ذلك لو أننا توجّهنا باللوم للإنسان الجاهلي الذي لا يبارح رمحه، ولا يفتأ يعانق سيفه منذ أن يفتح عينيه حتى يخلد إلى فراشه، ونقول له: إن من غير الصحيح ولا اللائق أن تجبر أحداً على شيء، أو أن تلجئه مكرهاً إلى فعل ذلك؛ ولهذا فإن عليك ألّا تفعل هذا الأمر، ولا تلجأ إليه، فإنه حتماً سوف يستهجن كلامنا، ويهزأ بنا، ويسخر منّا؛ لأنه إنما ربي على مثل هذا اللون من التصرّفات القسرية.
ومن هذا ما لو أنك أردت أن تمنعه عن إجبار المرأة على الزواج ممّن يختاره لها ـ بهذه الطريقة المعروفة في المجتمع الجاهلي الذي يقوم بإكراه المرأة على الزواج دون أن يكون لها أي رأي أو رغبة، بل إن المجتمع أو الأب إذا ما أرادا أن يزوّجاها من شخص، فإن هذا الزواج لابدّ كائن، ولابدّ لها من أن تتزوج من اختاروه لها وإن لم تكن راضية بذلك مريدة له ـ فإن هذا الإنسان سوف يسخر ممّن يتقدم إليه بمثل هذا النصح أو الإرشاد، أو التوجيه، بل إنه فوق ذلك سوف يسم هذا الإنسان الذي قام بإرشاده وتوجيهه بأنه ضعيف لا حزم له، ولا قوة يحكم بهما بناته، فيزوجهن كما يشاء، بل إنه يترك الأمر لهن ليتزوجن كما يشأن ضعفاً منه، بل إن هذا من وجهة نظره قمّة الضعف.
وهذا الرفض منه لأي توجيه لَهو رفض مبتنٍ على أمر واحد هو أنه يفسر الحياة كلها بعامل واحد هو عامل القوة التي لا يعرف غيرها في منطلقاته الفكرية، أو الاجتماعية، أو الاقتصادية، أو حتى الدينية. ونحن نعلم أن هذا الأمر عنده حاصل من فراغ كبير في القيم الحضارية التي يفتقر إليها عقله ووجوده وكيانه، فبناء على هذا الفراغ الحضاري أو المدني الذي يعيشه لا يجد منطلقاً آخر له ينطلق منه إلّا القوة، ولا يذعن لآخر إلّا بالقوة، ولا يريد منك أن تذعن له إلّا بالقوة حيث إنه يُلجِئ الآخر إلى القبول برأيه ومقرّراته باستخدامها ضدّه.
ولهذا فإننا نجد أن بعض من أسلم وهاجر كان في كل لحظة من لحظاته يتعامل بالقوة انطلاقاً من هذه المفاهيم والقيم التي كانت تسيطر عليه، وكانت سائدة في المجتمع الذي كان يعيش فيه من قبل، لكنه بعد ذلك تدرّج في قبوله الحالة الحضارية شيئاً فشيئاً حتى وصل إلى المرحلة التي أراد الإسلام الحنيف أن يوصل الإنسان المسلم إليها. وهذا يعني أن القوة هي التي كانت تحكم المجتمع البدوي القبلي آنذاك بكلّ شرائحه دون أن تدع مجالاً لأن تحكمه الأخلاق والعلائق البشرية الصحيحة والقويمة. وكما ذكرنا فإن هذا ناتج عن ذلك الفراغ الكبير القاتل الذي كان يتقلّب فيه إنسان الجزيرة العربية آنذاك، وغيره من أفراد الإنسان الجاهلي على مستوى الحضارة والمدنية.
وانطلاقاً من هذا فإننا نجد أن النبي الأكرم محمداً| عندما بعثه الله تبارك وتعالى لأهل الأرض ﴿شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً﴾ إليه ﴿بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً﴾([1]) سارع هؤلاء إلى الوقوف بوجه هذه الدعوة الجديدة، ورفضوا دعوته والانصياع إليه، وأبوا الدخول في هذا الدين الجديد، بل نجد أنهم فوق ذلك راحوا يعارضونه معارضة شديدة، وينزلون شتى صنوف الأذى والعذاب بمن يدين به من المكّيين، أو يصبأ إليه على حد تعبيرهم وقولهم.
نعم إن هؤلاء لم يقبلوا بهذا الدين الجديد، ولم يرتضوه لهم ديناً بديلاً عن دينهم الشركي القائم على نظام تعدّد الآلهة، وكما ذكرنا فقد واجهوه مواجهة كبيرة، وجابهوه مجابهة شديدة، حتى قام قائمهم فقال: ﴿اللهمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾([2]).
وتتجلى مظاهر الفراغ الأخلاقي والأدبي عند هؤلاء، وتتضح معالم القوة الباطلة والغاشمة التي كانوا يلجؤون إليها، وتستبين لنا معالم البعد عن القيم والأخلاق النبيلة عندهم في أن النبي الأكرم| إذ دعاهم إلى الأخلاق، وحثّهم على التعامل الحسن من خلال كتاب الله تبارك وتعالى الذي اُنزل عليه، ومن خلال سيرته الحسنة العطرة، الطيّبة المطهرة بينهم، نجد أنهم يرسلون إليه من يلقي الفرث والدم عليه وهو يصلّي، أي وهو ساجد إلى الله تبارك وتعالى، أو يرسلون إليه من ترمي بطريقه الأشواك والأذى، أو يتآمرون عليه لقتله، وكأنه| يدعوهم إلى الباطل أو ما فيه ضررهم، وإلى استخدام القوة بالباطل ضدّ الإنسان.
أما في المجتمع المدني، فنجد أن الأمر قد اختلف عن ذلك اختلافاً تامّاً، بل إنه ابتعد عن ذلك الطابع ابتعاداً واضحاً؛ حيث وجدنا الإقبال المنقطع النظير على هذا الدين الجديد واتّباعه، وعلى مساندة نبيه|، وعلى مناصرته وحمايته والدفاع عنه، بل نشر هذا الدين الجديد بين الناس. بل إننا نجد أن الأغلب من أبناء المجتمع المدني حتى وإن لم يكن ممّن آمن بهذا الدين الجديد أو أن دخل فيه، لكنه لم يقف معارضاً أمام النبي الأكرم محمد|، ولم يتّخذ من نفسه عائقاً دون دخول الآخرين في هذا الدين، ولم ينصب من نفسه جلّاداً يقوم بتعذيب الآخرين الذين يريدون الدخول في هذا الدين، أو الذين دخلوا فيه؛ كي يردّهم عنه، أو يمنعهم. نعم إن هؤلاء قد وقفوا موقفاً معتدلاً مبتعدين عن ذلك الاُسلوب الغادر والفجّ والفاجر الذي كان يتّبعه مشركو مكّة ضدّ الروّاد الأوائل من المسلمين.
يتبع…
____________________
([2]) الأنفال: 32. والقائل هو الحارث بن النعمان الفهري، فقد روى ابن مردويه عن سفيان بن عيينة أنّه سُئل عن قول الله عزّ وجلّ ﴿سَأَلَ سَآئِلُ بِعَذَاب وَاقِع﴾ [المعارج: 1]: فيمن نزلت؟ فقال للسائل: سألتني عن مسألة ما سألني عنها أحد قبلك، حدّثني جعفر بن محمّد عن آبائه قال: «إن رسول الله| لمّا كان بغدير خم نادى الناس فاجتمعوا، فأخذ بيد عليّ وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه. فشاع ذلك وطار في البلاد، فبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري، فأتى رسول الله| على ناقة له، فنزل بالأبطح عن ناقته وأناخها، فقال: يا محمّد، أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّك رسول الله فقبلنا منك، وأمرتنا أن نصلي خمساً فقبلنا منك، وأمرتنا بالزكاة فقبلنا، وأمرتنا أن نصوم شهراً فقبلنا، وأمرتنا بالحج فقبلنا، ثمّ لم ترضَ بهذا حتّى رفعت بضبعي ابن عمّك تفضله علينا، وقلت: من كنت مولاه فعليّ مولاه؟ فهذا شيء منك أم من الله عزّ وجلّ؟ فقال له النبيّ|: والّذي لا إله إلاّ هو إن هذا من الله عزّ وجلّ. فولّى الحارث بن النعمان وهو يريد راحلته، وهو يقول: اللهمّ إن كان ما يقوله محمّد حقاً، فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. فما وصل إلى راحلته حتّى رماه الله عزّ وجلّ بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره فقتله، وأنزل الله عزّ وجلّ: ﴿سَأَلَ سَآئِلُ بِعَذَاب وَاقِع * لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ﴾…». مناقب علي بن أبي طالب× (ابن مردويه الأصفهاني): 247 ـ 248 / 361، وفي رواية أنه قال: ولم ترضَ حتى نصّبت هذا الغلام علينا؟ انظر شواهد التنزيل لقواعد التفضيل 2: 381 ـ 382.