الهجرة؛ ملامح نصر، ومشروع دولة ـ 08

img

الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

الثالث: عملية تنظيم التوريد

أي بيع المحاصيل الزراعية الناتجة عن هاتين الأرضين أو المزرعتين، وكذلك فيما يتعلق بالوارد المترتّب على ذلك؛ كونها عملية تحتاج إلى تكوين علاقات جديدة بين كلٍّ واحد من هذين المزارعين مع أشخاص آخرين غير تلك العلاقة الثنائية التي تربط بينهما. وهؤلاء الأشخاص الجدد هم الذين سوف يشترون من أي واحد منهما بضاعته المتمثّلة بتلك المحاصيل الزراعية للجانب الاستهلاكي داخل البلد، أو لتصديرها إلى البلاد الخارجية.

وكما ذكرنا فإن هذه العملية ـ وهي بيع المحاصيل الزراعية ـ تحتاج إلى آلية قانونية لتنظمها، وإلى قواعد لتحكمها، وإلى علاقات تعتمد العامل الخلقي لتبسط خيمتها على هذه الآلية والقواعد. وهذا ما يقودنا في النتيجة إلى أن ننظر بنظرة اُخرى إلى المجتمع المتمدّن أو الحضاري، وهو المجتمع الذي يقوم على أساس العلاقات المتعدّدة والمتشعّبة التي ـ كما ذكرنا ـ بحاجة إلى تنظيمها جميعها.

وبهذا نصل إلى ما وصلنا إليه آنفاً، وهي أن نظرة الإنسان هنا ـ أي في المجتمع المدني ـ تختلف عن تلك النظرة التي ينظر بها إلى ذلك الإنسان الجاهلي البدائي الرعوي الذي لم يكن له من هذا الأمر الإيجابي كلّه كفل ولا نصيب.

ومن هنا فإننا نجد أنفسنا مضطرين إلى أن نخضع لنتيجة اُخرى هي أن الإنسان الجاهلي يرى أن علاقاته تنحصر بينه وبين بيته الذي هو خيمته، ومزرعته التي هي ظهر فرسه، وإذا كان الإنسان المدني يستثمر مزرعته ويستصلحها لكسب قوته ومعيشته والترفيه عن نفسه وأهله، فإن مزرعة الإنسان الجاهلي هي ظهر فرسه الذي عن طريقه ومن خلاله يكتسب قوته بالسيف والرمح والقتل. وانطلاقاً من هنا فإن الفرد الجاهلي يعتبر ظهر الفرس أعزّ مكان. يقول الشاعر أبو الطيب المتنبي مقرّراً هذه الحقيقة عندهم، ومنطلقاً من تلك القيم البدوية القاصرة التي كانت سائدة آنذاك بينهم:

تركت لأطراف القنا كلّ شهوة *** فليس لنا إلاّ بهنّ لعابُ
أعزّ مكان في الدنا سرج سابح *** وخير جليس في الزمان كتابُ([1])

ومن هذا المنطلق كان الجاهلي لا يملك بيتاً أفخم من خيمته، ولا مزرعة أو مصنعاً يدرّان عليه المال، ويؤمّنان له ما يقيم به إوده ويسدّ به جوعته وخلّته خيراً من ظهر فرسه الذي يعتبره أفضل وأفخم وأحسن مورد مالي له إذا ما اجتمع مع السيف والرمح والنبل. أما إنسان المجتمع المدني فیختلف عنه اختلافاً كبيراً؛ حيث إننا نجد أن عنده بيتاً حقيقياً يأوي إليه فيقيه حرّ الشمس، وبرد الشتاء، وظروف الطبيعة القاسية، وعنده اُسرة قوامها زوجة رؤوم تزوجها بنظام ديني، وبطابع شرعي تمثّل بالنسبة له نصف دينه، ورفيقة دربه، وصاحبته، وقرينة مشوار عمره وحياته، وعنده أولاد شرعيون؛ لأنهم ثمرة زواج شرعي مبتنٍ على قانون ثابت واحد يعمّ جميع أفراد المجتمع ويطبّق عليهم كلهم.

وعنده بناء على هذين المكوّنين الأساسيين ـ أي البيت النظيف والاُسرة السليمة ـ علاقات متشعّبة تبتني على جيرته لجيرانه، وهي العلاقة التي تحدّد وتحكم طبيعة تعامله مع الجار، وما له وما عليه من حقوق إزاءه، وكذلك علاقات اُخرى تحكمه مع أصهاره وأنسبائه الذين تزوّج منهم أو تزوّجوا منه.

كما أن هنالك علاقات اُخرى تحكمه كإنسان ملزم بأن يوفر لعائلته واُسرته حياة حرّة كريمة، وهاتان الكرامة والحرية لا تأتيان إلّا عن طريق العمل. وهذا يعني أن هنالك ضرورة لإيجاد نظم وقوانين وأحكام خاصة تحكم تلك العلاقات عامّة: علاقات الجيرة، وعلاقات العمل التي سوف تنشأ بينه وبين من يتعامل معهم، أو بينه وبين جار العمل؛ إجارة واستئجاراً، وبيعاً وشراء، وتصديراً واستيراداً، وما إلى ذلك. وهذا ما يقود إلى حقيقة واحدة يمكن اختصارها بأن هنالك نمطاً واضح الملامح، بيّن المعالم من التفاعل الاجتماعي عند الإنسان الذي يعيش ضمن مكوّن اجتماعي متحضّر وتحكمه آلية مدنية ثابتة فيما بينه وبين جيرانه؛ سواء كانوا جيران سكن، أو جيران عمل.

وهذه القيم الناشئة في هذا المجتمع، شأنها شأن التمثّلات الاجتماعية الاُخرى المبتنية على الجوار لم يكن يعرفها الإنسان البدوي، وهذا ما سوف نلاحظه من خلال ملاحظة التمثّلات الثلاث التالية:

الأولى: الاستقرار وعدمه في المجتمعين المدني والبدوي

ذلك أن الإنسان الجاهلي البدوي يعيش في خيمة يقوم بوضعها اليوم في مكان؛ وإذا به في اليوم التالي ـ طلباً للماء والكلأ يقتلعها ليقوم بركزها في مكان آخر، وبعدها بفترة وجيزة يغير ذلك المكان دون أن يتمكّن من أن يقيم علاقات تبتني على الجوار الحقيقي، وهو الجوار المستكمل في مدلوله اللغوي وحقيقته، أعني الجوار الحاصل في المجتمعات المدنية. وهذا يقودنا إلى أن ذلك الإنسان من الممكن ألّا نجد عنده التزام بقيم الجوار إلّا أن يأتيه من يطلب جواره وحمايته، فالأمر هنا مختلف جدّاً؛ لأنه أمر ينتهي بانتهاء المشكلة التي أدّت إلى طلب ذلك الإنسان تلك الحماية وذلك الجوار، وبهذا فإن هذه المسألة تنتفي من أصل.

يتبع…

_____________________

([1]) شرح ديوان المتنبّي 1: 339. الصحيح المنبي عن حيثيّة المتنبّي 1: 97، 101، 115. الوساطة بين المتنبّي وخصومه 1: 45. زهر الآداب وثمر الألباب 1: 58. العمدة في مجالس الشعر وآدابه 1: 78. يتيمة الدهر 1: 49، 53.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة