الهجرة؛ ملامح نصر، ومشروع دولة ـ 07

img

الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

البحث الثاني: الصعيد المكاني

ثم إننا لو أردنا أن نتناول مسألة الهجرة من منظار آخر هو منظار المكان، فإننا سنجد أن هنالك بوناً واسعاً، وفرقاً شاسعاً بين هذين المكانين اللذين احتضنا حياة الرسول الأكرم| واكتنفا الدعوة الإسلامية المباركة؛ فمن مكة التي امتازت بأنها ذات بيئة صحراوية جافّة لا على الصعيد الجغرافي أو المناخي، بل على صعيد الثقافة والتطلّع والمعرفة حيث المجتمع البدوي بكل ما لهذه المفردة من أبعاد دلالية ولغوية.. بيئة قائمة على حياة فردية ليس فيها ذلك التفاعل الاجتماعي المعروف والمألوف في الأماكن تتّسم بكونها ذات طابع حضاري؛ كونها حياة لا تعتمد على العمل، ولا تحتكم إلى نمط تفاعلي يؤسس لحياة تقوم على أساس تنظيم العلاقات بين الأفراد داخل المجتمع الواحد، وبين المجتمعات داخل المكون الجغرافي الواحد إلى بيئة مدنية لا تخلو من جانب حضاري وثقافي بنسبة ما.

ومن هنا فإننا ما إن نلقِ نظرة على طبيعة المجتمع المكي، فسوف نجده مجتمعاً يفتقر لكلّ مقوّمات المجتمعات ذات الطبيعة التفاعلية، والعلاقات التفاعلية المبتنية على تعامل الإنسان مع أخيه الإنسان تعاملاً ودّياً وطيّباً. وهو ما رأيناه بعد ذلك في التشريعات الإسلامية التي نظّمت علاقة الإنسان بغيره على مستوى الحقوق والواجبات، وآداب العشرة، والتعاملات البشرية الأخرى كافّة؛ سواء كانت تعاملات تجارية، أو سياسية، أو دينية أو ما إلى ذلك من أنماط التعامل المعروفة.

نعم، إن المجتمع المكّي كان يفتقر إلى كلّ هذا الاُمور، فافتقر بذلك إلى الاستقرار الذي كان يستشعره الإنسان الجاهلي ولو بشكل نسبي. ومن المعلوم الثابت لدى علماء الاجتماع أن التفاعل الاجتماعي، والتعايش المدني، ونمط الحياة السليم والصحيح إنما هي اُمور تأتي كلها من الاستقرار البشري على أصعدته كافّة؛ سواء كان استقراراً مالياً اقتصادياً، أو استقراراً اجتماعياً، أو استقراراً سياسياً، أو عقيدياً.

ومن هنا فإننا نرى أن الإنسان الذي يعيش الاستقرار يعتبر إنساناً يعيش داخل مجتمع ينصهر هو عينه في بوتقة ذلك التفاعل الاجتماعي المبتني على أسس خاصة تؤطر طبيعة العلاقات البشرية داخل المكون البشري الواحد، وتنظيم العلاقات البشرية هذه كذلك. وكمثال على هذا لو أن إنساناً يعمل في الزراعة مثلاً، وكان يملك قطعة أرض، وكان له جار يعمل في الميدان نفسه؛ فيملك قطعة أرض اُخرى مجاورة لقطعته؛ فإنهما حتماً سوف يستشعران ضرورة وجود نظام خاص بينهما يحكم علاقتهما؛ سواء على صعيد العلاقة الاجتماعية، أو على صعيد علاقة العمل المستندة إليها، حيث إنهما سيجدان نفسيهما مضطرّين إلى قانون واحد ثابت يخضعان له حول تنظيم هذه العلاقة التي تسيّر آلية العمل في هذه الأرض من جهة، وكذلك تسير عملية استزراع هذه الأرض واستثمارها وسقيها، والكيفية التي يتمّ فيها هذا السقي بأي صورة كانت بحيث إنه لا يضارّ واحد منهما.

إذن هما في هذه الحالة وفي هذه المرحلة سوف يجدان نفسيهما مضطرين إلى الخضوع لقانون ينظم لهما هذه العلاقة الاقتصادية الجديدة المبتنية أساساً على طبيعة العمل الذي يمارسانه من حراثة الأرض وزراعة الأشجار وسقيها وما إلى ذلك مما تتطلّبه مهنة زراعة هذه الأرض واستثمارها. ومن هنا نجد أن هذا الأمر تترتّب عليه اُمور اُخرى نذكر منها:

الأول: حق الشفعة

وذلك فيما لو أراد أحد هذين الجارين بيع أرضه، فإن لجاره الآخر حقّ الشفعة فيها وشرائها إذا ما أراد ذلك دون أن يحقّ للمالك أن يبيعها إلى أحد غيره إلّا إذا أعرض هو عنها، ولم يشأ شراءها.

الثاني: عملية تنظيم الري

أي سقي هاتين الأرضين بصورة لا تحصل معه بين مالكيهما مشاحّة في استعمال الماء، ولا خصام ولا شحناء، ولا نزاع ولا بغضاء؛ نتيجة عدم اقتسام ماء الري بشكل عادل، كما أشرنا إليه آنفاً([1]).

يتبع…

________________________

([1]) ومن ذلك ما يرويه بعض المفسّرين والمحدثين من أن الزبير بن العوام قد وقع خصام بينه وبين رجل من الأنصار على سقي نخيلهما التي كانت متقاربة في المكان، فترافعا إلى النبي|، وحيث إن نخيل الزبير كانت أعلى مكانا من نخيل الأنصاري، قال رسول الله| للزبير: «اسقِ ثم أرسل إلى جارك». وقد كانت هذه هي العادة المعمول بها في البساتين المتجاورة آنذاك، فغضب الأنصاري من حكم النبي| العادل هذا، وقال: يا رسول الله، لئن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله|؛ انزعاجاً من موقف الأنصاري وكلامه، فقال للزبير: «اسقِ ثم احبس حتى يرجع الماء إلى الجدر ـ وكان ذلك إلى الكعبين ـ ثم خلِّ سبيل الماء». فنزل قوله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ [النساء: 65] تحذّر المسلمين من مثل هذه المواقف. التبيان في تفسير القرآن 3: 245. صحيح البخاري 3: 76 ـ 77. المجموع شرح المهذّب 15: 242 ـ 243.

وهو مصداق قول نبينا الكريم| في حديث عبادة أنه| قضى في شرب النخل من السيل أن الأعلى يشرب قبل الأسفل، ويترك الماء إلى الكعبين، ثم يرسل الماء إلى الأسفل الذي يليه، وكذلك حتى تنقضي الحوائط، أو يفنى الماء. الكافي 5: 278 / 6. تهذيب الأحكام 7: 140، ب10، ح621. سنن ابن ماجة 2: 830 / 2483. أسد الغابة 1: 245. كشاف القناع 4: 241 ـ 242.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة