الهجرة؛ ملامح نصر، ومشروع دولة ـ 03

img

الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

المبحث الثالث: الجزاء الأخروي المترتب على الهجرة

ثم انتقلت آية المقام الكريمة لتقول: ﴿وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾. وقبل الولوج في تفاصيل هذا المقطع الشريف من آية المقام الكريمة وعد لابد من أن نذكر من باب الشاهد أن المفسّرين يروون عن العوام عمّن حدثه أن عمر بن الخطاب كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاءه يقول: خذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك الله في الدنيا، وما ذخره لك في الآخرة أفضل. ثم تلا هذه الآية: ﴿لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ ([1]).

أي أن الله تبارك وتعالى قد وعدك أيها الإنسان المهاجر في سبيل الله أن يبدلك بهذه الدنيا أجراً كبيراً، وعطاء ضخماً وعظيماً في الآخرة حيث الجنة والرضوان، فضلاً عن إبدالك هذا الأمر في الدنيا، وتحقّقه فيها حيث أبدلك بجوعك الذي كنت فيه بمكّة هذا العطاء الذي لازلت تستلمه من بيت مال المسلمين، وهو عبارة عن صندوق لضمان احتياجات الإنسان المسلم، ولكفالة من يعوزه أمره شيئاً من أمور هذه الحياة.

إذن فالإنسان المهاجر حتماً سوف يعطيه الله تبارك وتعالى أجراً أكبر يوم القيامة متمثلاً بالجنة والرضوان؛ لأنه هاجر قربة إلى الله تبارك وتعالى، وطلباً لهذا الرضوان، وامتثالاً لأمره جل شأنه وأمر رسوله الأكرم|، مخلفاًً بذلك ما كان فيه ـ وهذا ينطبق على بعض المسلمين ـ من نعيم وبحبوحة عيش، ورغد حياة، حيث خلف كل ذلك وراءه منتقلاً عنه إلى دار لا يعلم إلام سيؤول إليه أمره فيها، وما إذا كان سيحصل على مثل ذلك النعيم، أو أنه لا يحصل عليه؛ إذ إنه لم يكن ليفكر بشيء من هذا أبداً، بل إن كل همّه وتفكيره كانا منصبّين على إطاعة أمر الله تبارك وتعالى، وعلى نصرة دينه ودين نبيه الأكرم|.

وهنا يتجلى العطاء الأكبر للإنسان المهاجر الذي هاجر معتقداً اعتقاداً كاملاً بأنه إنما يهاجر إلى رب جواد غفور، وإلى نبي سخيّ كريم سوف لا يألو جهداً في سبيل تحقيق وسائل الاستقرار له؛ حتى يتمكّن من أن يعبد الله تبارك وتعالى دون أن يقطع عليه أحد من المشركين عبادته تلك.

المبحث الرابع: الأبعاد الإلهية للهجرة

حينما نعود إلى موضوع الهجرة؛ فسنرى تلك الأبعاد الثلاثة التي يمكن أن تتحقق عبره، والتي يمكن أن تلابس هذا الموضوع وتندرج تحته، وهذه الأبعاد الثلاثة قد استنفدها موضوع الهجرة كاملة على صُعُدها الثلاثة؛ لينطبق على مفرداتها دون أن يتأخر مفهوم منها. وهنا لابدّ من تناول هذه الأبعاد بالنمط التالي ضمن الأبحاث التالية:

البحث الأول: الصعيد الزمني

لاشك أن المتتبّع لهذه المرحلة التي عاشها الإسلام والنبي الأكرم| سوف يجد أنها مرحلة هامّة تنطوي على مستويين هامّين يختلفان عن بعضهما؛ حيث إن الزمن الذي ابتدأ بالهجرة المباركة وما أعقبها من أحداث ومعارك وفتوحات يختلف عن ذلك الزمان السابق لها، والذي قضّاه رسول الله| في مكّة من أجل تأصيل ناحية واحدة هامة وضرورية، أعني تأصيل العقيدة السماوية الحقّة في النفوس المتعطّشة إلى اعتناق الحقّ، والمشرئبّة إلى أن تسبح في فضاء حرية الفكر والدين والمعتقد، والوالهة إلى أن تعيش الدين الإلهي الذي يستنقذهم من وهدة الشرك وبؤرة الضلال، ومستنقع الخطيئة إلى قمة حياة الحرية والكرامة بعد أن ينتزع من تلك النفوس ما كان عالقاً فيها من عقائد فاسدة.

ومن هنا فإننا نقول: إن هذا الأمر جاء من منطلق حساس جدّاً، مرتكزٍ إلى أمر ينتهي إلى أن المرحلة التي عاشها الرسول الأكرم| في مكة المكرمة على مستويي الدعوة السري والعلني قد كرّست بأن امتازت بزرع العقيدة الإسلامية في نفوس الناس، حيث كان هذا هو كل همّ نبينا الأكرم محمد| وكل أمله، فكان هذا الهدف شغله الشاغل.

وهو أمر اقتضته طبيعة مرحلة الدعوة تلك بناء على أوامر السماء التي حددت طبيعتها هذه في تلك المرحلة، وقيّدتها بأن تكون مرحلة سلمية تهدف إلى زرع أفكار جديدة، وعقائد صحيحة وسليمة وقويمة في نفوس الناس بعد انتزاع تلك العقائد الفاسدة المبتنية على الشرك بالله تبارك وتعالى؛ حيث تعدّد الآلهة.

وهذا ما نجده واضحاً من خلال الآيات والسور القرآنية التي نزلت في تلك الحقبة الشريفة من عمر الدعوة الإسلامية، والتي ركزت كثيراً على جانب التوحيد والعقيدة دون التطرّق إلى شيء آخر من جوانب الحياة الإنسانية بميادينها كافة؛ سواء منها الجانب التشريعي، أو الاجتماعي، أو الاقتصادي، أو السياسي، أو الحربي، وما إلى ذلك.

نعم، كانت تلك المرحلة حسّاسة جدّاً؛ لأنها مرحلة انطوت على أمر واحد هامّ هو ـ كما ذكرنا ـ تأصيل العقائد السماوية في نفوس الناس، واستزراعها فيها، واستنباتها في عقولهم لتعطي ثمارها يانعة. وفي المقابل كذلك يعمل جاهداً على انتزاع كل ما من شأنه أن يبعد الإنسان عن الله تبارك وتعالى، وعن دينه القويم من تلك النفوس والعقول بعد أن تتحدّد طبيعة تلك العقائد المتقابلة ـ أعني العقائد السماوية الحقة، وعقائد الشرك الباطلة ـ وتتبين للإنسان الجاهلي الذي إن كان ذا مسكة من عقل فإنه حتماً سوف يسعى إلى أن يتخلص سراعاً من تلك العقائد الباطلة المجحفة بعقله، ويعتنق مكانها هذه العقائد الجديدة التي تدعو إلى إحقاق الحق، وبسط العدل، وما إلى ذلك.

ولتوضيح هذا المعنى لابدّ من أن نذكر المثال التالي، وهو لو أن إنساناً يمتلك بيتاً قد تقادم عهده، وأصابه البلى والخراب في كثير من مرافقه ومشتملاته، ثم أراد أن يقوم بإصلاح ما أتت عليه يد الدهر منه، وتعمير ما أصابه البلى والخراب، فإنه حتماً سوف يعمد إلى كل جزء خَربٍ منه، وإلى كل ما أصابته صروف الدهر منه، فيهدّه، ويقوم باستبداله ببناء حديث جديد يتواكب مع متطلّبات الحياة التي يعيشها بما يتطلّبه ذلك من حفر أسس، وتشييد دُعامات، ومن بناء جديد؛ حتى يتمكن هذا البيت من أن يقوم مرة ثانية، ويتمكّن من أن يواجه ما يستطيع مواجهته من أي مؤثر من مؤثرات الطبيعة التي يمكن أن تهدّه ثانية.

وهذا هو حال البيت العربي الجاهلي الذي كان عليه الإنسان المكّي، بل المجتمعات العربية التي كانت تقطن الجزيرة العربية آنذاك كافّة؛ فالنبي الأكرم| لم يبعث إلى مجتمع حديث الولادة بحيث إنه كان كالعجينة يتشكّل كما يريد له مصلحه أن يكون، وعلى الصورة التي يريدها له، بل إنه| قد بعث إلى مجتمع تعيث فيه الكثير من العقائد الفاسدة، والمسبقات الذهنية الباطلة التي توغلت في قلوب أفراده، وتغلغلت في عقولهم، ونمت وكبرت واتّسعت على نطاق ذينك العضوين الهامين منه. وهو الأمر والذي جعله يربو على جاهلية عمياء ركزت عنده جانب الكفر والإلحاد، ومفاهيم التحلّل والبعد عن القيم الإلهية، والوغول في القيم البدوية الباطلة تركيزاً كبيراً إلى حدّ يمكن اعتباره معه أنه أمر لا يمكن غضّ النظر عنه؛ لما كان يرتبه عليه ذلك الإنسان الجاهلي من آثار نتيجة تأثير تلك المعتقدات الباطلة، والتقاليد الفاسدة عليه، ونتيجة وقوعه تحت طائلة تأثيرها الإيحائي.

ومن هنا فإنه لا يمكن لأحد أن يدّعي بأن مهمة الرسول الأكرم| كانت مهمة سهلة هيّنة، بل إنها كانت مهمّة محفوفة بالمخاطر، والصعوبات والمعوقات والعقبات الكأداء التي تعترض طريق أي مصلح يريد أن يؤدّي رسالته ودوره ووظيفته في مثل هذا النمط من المجتمعات الجاهلية. نعم كانت وظيفته| صعبة وحساسة، بل كانت وظيفة تنطوي على مخاطر كبيرة من الممكن أن تودي بحياته الشريفة|، كما هو الملموس والثابت من سيرته| الدعوية لولا عناية السماء ورعايتها ومراقبتها له، وحرصها على حفظ تلك الحياة التي تتوقّف عليها حياة المليارات من أبناء الإنسانية الذين كانوا سيعيشون ظلاماً عقيدياً وفكرياً، وعقلياً ونفسياً دامساً، وكفراً مدلهماً إذا ما أصيب صاحب هذه الدعوة بضرر أو مكروه.

إن أول أمر كان نصب عيني رسول الله| هو أن يؤدّي وظيفته هذه عبر مرحلتين:

الأولى: أن يقوم بتنظيم المجتمع الإنساني، وتطهيره من كل عوالق الشرك، ومن كل ما يرتبط بهذا الأمر من مفاهيم مغلوطة وقيم فاسدة وعقائد باطلة.

الثانية: أن ينظّف الأذهان ويطهّرها ممّا علق بها من كل آثار تقاليد وعقائد الجاهلية؛ سواء كان بتأثير العقل الجمعي، أو بإيحاءات معينة يتصرّف الإنسان على ضوئها تصرفاً شركياً بعيداً عن كل ما من شأنه أن يقرّبه إلى الله تبارك وتعالى.

ولا يستخفّنّ أحد بهذه الوظيفة، أو هذه المهمة له|؛ ذلك أنها كانت مهمة ضخمة، ووظيفة عظيمة تستمدّ ضخامتها وعظمتها من ضخامة الهدف الذي تسعى إلى تحقيقه، ومن عظمته نفسه. إننا نعي جيداً أنه ليس من السهل على إنسان ما أن يجرّد إنساناً آخر ممّا علق بذاكرته من مسبقاته الذهنية، أو الحضارية التي تعشش فيه، والتي تتوغل به يوماً بعد يوم، وتتركّز أكثر فأكثر كلّما طال به الأمد، وامتدّ به العمر مهما كانت الوسائل التي يمتلكها الداعي أو المصلح.

يتبع…

________________

([1]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن 14: 143. تفسير الثعلبي 6: 18. معالم التنزيل فى تفسير القرآن (تفسير البغوي) 3: 69. المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (ابن عطية) 3: 395. تفسير البحر المحيط 5: 478.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة