الاختيار الإلهي ـ 14

img

الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

رجع

إذن فالغاية من قوله تبارك وتعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾ هي طرح إجابات على بعض التساؤلات التي منها العلة أو السبب في اختيار الله تبارك وتعالى لما ذكرنا أنه خيرته من مخلوقاته؛ سواء على مستوى الأفراد أو الأمكنة أو الأزمنة أو ما إلى ذلك؛ حيث إننا لابد أن نذعن إلى حقيقة هي أن الله سبحانه إنما اختار ما اختار لعلة تستوجب ذلك الاختيار وتنجزه بحق المختار؛ لوجود ميزة وخصائص عنده تميّزه عن غيره، وتجعله محلّا ً لذلك الاختيار، وأهلاً له.

المبحث الثاني: في أن من خيرة الله أهل البيت^

ذكرنا في البحث السابق أن النبي الأكرم| هو خيرة الله من خلقه؛ كونه| قد توفر على مؤهلات لا تحصى، جعلت منه أهلاً لذلك الاختيار، وركّزت بحقه هذه الإرادة الإلهية المباركة؛ فكان بهذا الاختيار سيد الكائنات، بل سيد الموجودات جميعها. وسوف نفرّع في هذا المبحث الشريف على هذا الاختيار السماوي اختياراً إلهياً آخر يتعلّق بعترته|، نجمله عبر الأبحاث التالية:

البحث الأول: الروايات الواردة في عترته|

إن هذه المسألة تعتبر انعطافة هامة في تاريخنا لابدّ من الإشارة إليها وبيانها، وهي أن كل ما يتّصل بهذا الفرد الأكمل المختار ـ وهو النبي الأكرم| ـ إن كان على صفته|، فهو محل لذلك الاختيار وداخل فيه؛ فكل من يتصل به وما يتصل به| بالشرط الآنف، فيتّصف بصفاته| فهو في ضمن دائرة الاختيار المتجسّد من خلال منظومة من الآثار النبوية الشريفة الواردة بخصوص هذه العترة المقدّسة الطاهرة، ولبيان أهليتها لقيادة دفّة الاُمة من بعده|. فهي شريحة تمثّل خلاصة النبي الأكرم| ومزاجه، ومنها الإمامان الحسن والحسين’ اللذان كان رسولنا الأعظم| يحملهما ويقبلهما، ويقول فيهما: «ابناي»([1]). فهو إذن وأخوه’ سبطا رسول الله‘ وريحانتاه([2])، وولداه القائل فيهما: «إنهما مني وأنا منهما»([3]) ومن قرن حبّهما بحبّه وحبّه بحبّهما، وبغضهما ببغضه وبغضه ببغضهما([4]).

والقائل في ثانيهما’: «حسين مني وأنا من حسين» ([5]).

وإلاّ فأليس كلّ مسلم يسمع قول نبيّنا الأكرم| فيه، وقد أمسك بيده×، ثم حمله على صدره وقال: «حزقة حزقة، ترقّ عين بقة»([6]).

وهذا يعني أن الحسنين’ جزء لا ينفكّ عن رسول الله|؛ لا عن طريق الدم والجسد فقط، بل عن طريق النفس والروح، والمنزلة، والدين والعقيدة والوظيفة وفق هذه الأحاديث التي ذكرنا بعضها، وما لم نذكره في هذا المجال أكثر.

فهما’ إذن جزء من خصائص النبي الأكرم| النفسية والجسدية، فكل ما عنده| من خواص قد استمدها منه هذان الإمامان اللذان نص| على إمامتهما؛ سواء قاما أو قعدا([7])؛ باعتبارهما جزءاً لا ينفك عن كيانه|؛ فدمهما’ دمه|، ولحمهما لحمه، ونفسهما نفسه الشريفة، ووظيفتهما وظيفته المقدّسة.

البحث الثاني: موقف الأمويين من امتداد رسول الله|

ولو أننا رجعنا إلى التاريخ لننظر ما الذي فعله الأمويون بدم رسول الله| ولحمه يوم الطف لوجدنا فظائع وجرائم ضدّ الدين والإنسانية تقشعر منها الأبدان، وتشيب من هولها الولدان؛ فقد مزقوا لحم الرسول الأكرم| بالسيوف والرماح، وأراقوا دمه الطاهر على تربة كربلاء؛ حيث إن دم الإمام الحسين× هو دم رسول الله|، ومن قبله أتوا على جسد الإمام الحسن× فقطعوه بالسم بعد أن لفظ أحشاءه في طشت بين يديه مع علمهم بأنه× لحم رسول الله|.

وبهذا فإننا نرى أن مصرع النبي الأكرم| ليس في ذلك اليوم الذي التحق فيه بالرفيق الأعلى فقط، بل إن مصرعه هو في كل يوم يقتل فيه أحد آله وأبنائه^، الذين مثّلوا خطه، وكانوا امتداداً لملّته|، ودمه ولحمه. وأبرز مصرع له| هو مصرعه يوم الطف حيث تمثل ذلك بمصرع الإمام الحسين× وأولاده وأصحابه. وهذا ما يصوره لنا الشريف الرضي (رضوان الله تعالى عليه) في قصيدته المقصورة التي يوجه فيها خطابه للنبي الأكرم| قائلاً:

يَا رَسُولَ اللهِ لَو عَايَنتَهم *** وَهُمُ مَا بَينَ قَتل وسِبا
مِن رَميض يُمنَعُ الظِّلَّ ومِن *** عَاطِش يُسقَى أنابِيبَ القَنَا
وَمَسُوق عَاثِر يُسعى بِهِ *** خَلفَ مَحمُول عَلَى غَيرِ وِطَا
مُتعَب يَشكُو أذَى السَّيرِ عَلَى *** نَقبِ المَنسِمِ مَجزُولِ المَطَا
لَرَأتْ عَيْنَاكَ مِنهُمْ مَنْظَراً *** للحَشَا شَجْواً وَللعَينِ قَذَى
لَيسَ هَذَا لِرَسُولِ الله يا *** اُمّةَ الطُّغيَان والبَغيِ جَزَا
غارِسٌ لمْ يَألُ في الغَرْسِ لهُمْ *** فَأذاقُوا أهْلَهُ مُرّ الجَنَى
جَزرُوا جَزرَ الأضَاحِي نَسلَهُ *** ثُمّ سَاقُوا أهلَهُ سَوْقَ الإمَا([8])

وينخرط في سرد تفاصيل الواقعة الأليمة المفجعة، فيخاطب كربلاء المشرّفة بقوله الذي يبعث في النفوس مجاني الحزن ومنابع الشجن، ويختزن فيها مهابط اللوعة والأسى، فيأتي ليسرد الواقعة بلون أكثر بياناً وتفصيلاً، فيقول+:

كم على تربك لما صرعوا *** من دم سال ومن دمع جرى
وضيوف لفلاة قفرة *** نزلوا فيها على غير قرى
لم يذوقوا الماء حتى اجتمعوا *** بحدا السيف على ورد الردى
تكسف الشمس شمس منهم *** لا تدانيها علوا وضيا
وتنوش الوحش من أجسادهم *** أرجل السبق وايمان الندا
ووجوها كالمصابيح فمن *** قمر غاب ومن نجم هوى
غيرتهن الليالي وغدا *** جائر الحكم عليهم البلى([9])

ومن خلال هذه الأبيات نجد أنه يرسم لوحة يبين من خلالها للنبي الأكرم| ما كان عليه الحال سواء قبل المجزرة أو بعدها في رحلة السبي، وهو الأمر الذي تناوله أديب آخر قائلاً:

تلك الوجوه المشـرقات كأنها الـ *** ـأقمار تسبح في غدير دماءِ
خضبوا وما شابوا وكان خضابُهم *** بدم من الأوداجِ لا الحنّاءِ([10])

وهكذا ينتقل الحال إلى رحلة السبي حيث يتعمد المجرمون المرور على أشلاء القتلى وجثثهم الطاهرة المتناثرة هنا وهناك في مصارعهم حيث باركت هذه العائلة المسبية تلك الدماء الطاهرة التي أريقت على أرض كربلاء وعانقت ثراها رضا بقضاء الله تبارك وتعالى وقدره واستجابة لندائه بالجهاد في سبيله، وباركت تلك الأجساد الممزقة التي أخذتها السيوف والرماح كل مأخذ، ونالتها النبال والسهام.

 وبعد أن أرخى الليل سدوله خرجت السيدة العقيلة زينب÷ لتجمع العيال والأطفال، وبقيت في نفسها تلك اللوعة، وهي أن تمر بهذه المصارع لتودع أعزاءها. وقد تحقق هذا الأمر لها في صباح اليوم الحادي عشر بعد أن جيء بالنياق، وأركبت عائلة رسول الله|، وبقيت هي ماشية على قدميها لقلة الركائب، فتخلفت عن القافلة قليلاً، ومالت إلى نهر العلقمي حيث أخوها وكافلها العباس× الذي حملها من المدينة المنورة بكفالته، فهرولت إلى جسده الشريف لتجلس عنده وتسأله قائلة: أين ذلك العهد الذي بيني وبينك وقد أخرجتني من مدينة جدي|؟ وكأني بلسان حاله مجيباً إياها:

اللي يرد الخيل عنك داسته الخيل *** ما ظل الك حامي عگب عينه ولا كفيل
شبعي مذلّة يوم فارقت الرياجيل *** حاميك من ضيم الدهر وينك أو وينه
راحوا إرجال الليّ اطلعوچن من وطنچن *** أو لا ظل بعد منهم مِن ينغر الچن
نايم على شاطي النّهر كافل ظعنچن *** يمّه العلم والجود واليسرى واليمين
وانچان الچ ظنّه إبهلچ گومي اندبيهم *** أو ذكري اساميهم يحرّه وعدّديهم
كلهم ضحايا وخيلنا لعبت عليهم *** أو هذي الذي اگبالچ يزينب جثة حسين
صَوّتي باسمِ مَنْ أردتِ فإنّا *** قد أبدناهمُ جميعاً قِتالا
وكسوناهُمُ الرِّمالَ ثياباً *** وسَقيناهُمُ المنونَ سِجَالا
وهي لا تستطيعُ ممّا عَراها *** مِنْ دُهى الخطبِ أنْ ترُدَّ مقالا
غيرَ تردادِها الحنين وإلاّ *** زفرةً تنسِفُ الرّواسي الثِّقالا
شتشور يبن أمّي عليّه *** أغرِّب يو أظل بالغاضريه
وآنه العزيزه الهاشميّه *** چلمة عدو صعبه عليّه
يحسين شوف اشصار بيه *** اخلافك يبن حامي الحميّه

ظليت ما عندي تچيّه

ماذا أقولُ إذا التقيتُ بِشامتٍ إني سُبِيتُ وإخُوتِي بِإزائي([12]).

_____________________

([1]) تحفة الأحوذي 10: 187. المصنف (ابن أبي شيبة) 7: 512 / 22. خصائص أمير المؤمنين (النسائي): 123. صحيح ابن حبان 15: 423. المعجم الصغير 1: 200. كنز العمّال 13: 671 / 37711. تاريخ مدينة دمشق 13: 25، 26، 199، 14: 151، 155. تهذيب الكمال 6: 55، وغيرها كثير.

([2]) قال نبيّنا الأكرم| فيهما: «هما ريحانتاي من الدنيا». صحيح البخاري 4: 217، 7: 74. الجامع الصحيح (سنن الترمذي) 5: 322 / 3859. مسند أبي داود الطيالسي: 260 ـ 261. مسند أبي يعلى 10: 105 / 5739. المعجم الكبير 3: 127، 4: 155 ـ 156. اُسد الغابة 2: 19. تهذيب الكمال 6: 400 ـ 401. سير أعلام النبلاء 3: 281 ـ 283. تاريخ الإسلام 5: 99 ـ 100. الإصابة في تمييز الصحابة 2: 68 ـ 69.

([3]) لم نعثر عليه عنه| بخصوص سبطيه’، وما في المصادر الحديثية والتاريخية أنه| قاله بخصوص الإمام أمير المؤمنين علي× والسيدة فاطمة الزهراء÷ عند زواجهما السماوي المقدّس والمبارك؛ حيث إنه| قال: يا أسماء، املئي لي مخضب ماء وائتيني به. فملأته وأتته به، فأخذ رسول الله| شيئاً منه ومجه فيه، ثم غسل فيه وجهه وقدميه الشريفتين، ثم دعا فاطمة÷، فأخذ كفاً من ذلك الماء فنضحه على صدرها، وأخذ كفاً ثانياً فنضحه على ظهرها، ثم أمرها أن تشرب من بقية الماء. ثم دعا بالإمام أمير المؤمنين علي× فصنع به مثل ذلك. ثم قال: «اللهم إنهما مني وأنا منهما، فكما أذهبت عني الرجس وطهرتني فأذهبه عنهما وطهرهما». ثم قال|: «قوماً إلى بيتكما جمع الله بينكما، وبارك لكما في سيركما، وأصلح بالكما». شرح الأخبار 2: 358 ـ 359. كشف الغمة في معرفة الأئمة 1: 382 ـ 383، 2: 100 ـ 101. كشف اليقين: 198 ـ 199 / 52. بحار الأنوار 43: 141 ـ 142 / 37. المعجم الكبير 22: 412، 24: 134 ـ 135. نظم درر السمطين: 187 ـ 188.

نعم من المفتريات على الإمام أمير المؤمنين علي× أنه قال بحق الإمام الحسين× ومحمد بن الحنفية: «هما مني وأنا منهما». بعد أن افتروا أنه× عرّض بابنه السبط الأول ريحانة رسولنا الأعظم|. انظر: أنساب الأشراف 3: 6. الإمامة والسياسة (ابن قتيبة الدينوري) 1: 132، 174.

([4]) قال|: «أحبّ الله من أحبّ حسيناً، وأبغض الله من أبغض حسيناً». مسند أحمد 4: 172. سنن ابن ماجة 1: 51. الجامع الصحيح (سنن الترمذي) 5: 324، وغيرها كثير.

([5]) تحفة الأحوذي 10: 190. المصنف (ابن أبي شيبة) 7: 515. صحيح ابن حبان 15: 428. المعجم الكبير 3: 33، 22: 374). المستدرك على الصحيحين 3: 177. تاريخ مدينة دمشق 14: 149. تهذيب الكمال 6: 402، 10: 427. تهذيب التهذيب 2: 299. البداية والنهاية 8: 224.

([6]) كفاية الأثر: 82. معرفة علوم الحديث (الحاكم): 89. شرح نهج البلاغة 6: 331. كنز العمال 12: 649 ـ 650 / 37643.

([7]) بقوله|: «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا». دعائم الإسلام 1: 37. علل الشرائع 1: 211 / 2. الإرشاد 2: 30.

([8]) انظر مناقب آل أبي طالب 3: 267. بحار الأنوار 45: 249 ـ 250 / 10.

([9]) المصدر نفسه.

([10]) المصدر نفسه.

([11]) أدب الطف 7: 214.

([12]) أدب الطف 7: 214.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة