الاختيار الإلهي ـ 13
الشيخ الدكتور أحمد الوائلي
البحث الثاني: العلة في هذا التفضيل
وكما ذكرنا في صدر هذا المبحث أن بني البشر تتملكهم غريزة حب الاستطلاع ومعرفة الأشياء على مستوى الأسباب والنتائج؛ ولذا فإنهم حتماً سوف يتساءلون عن سر هذا الاختيار الإلهي لهذه الأشياء؛ سواء كانت أشخاصاً، أو أزمنة، أو أمكنة، أو غير ذلك، مع أنهم يرون مثلاً أن بني البشر كلهم ينتسبون إلى أب واحد هو آدم×، ويجمعهم اسم واحد هو اسم بني آدم أو تجمعهم كلمة واحدة هي البشرية.
والجواب عن هذا الإشكال أو التساؤل هو أن نقول: صحيح أن بني البشر كلهم يرجعون إلى أب واحد وهو آدم×، لكنهم في واقع الأمر يتفاوتون فيما بينهم تفاوتاً ملحوظاً على مستوى الطاعات والإيمان والعقل والذكاء والإخلاص وإلى ذلك من صفات يتمتع بها بنو الإنسان، وهي تنتشر بينهم على نمط من أنماط التشكيك، أي أنها صفات تمثل مفاهيم مشككة عندهم لا يتساوون فيها أبداً.
وهنا لابدّ من أن نلفت نظر الآخرين إلى نقطة هامة هي أن في كل شيء يتصف به الإنسان عندنا نقطة تسمى الحدّ الأدنى، ونقطة اُخرى تسمى الحد الأعلى، ونقاط اُخرى تتوزع ما بين هاتين النقطتين. وكل واحد من بني الإنسان لابدّ أن يكون نصيبه إحدى هذه النقاط المتوزعة على خط الرقي هذا انطلاقاً من الحد الأدنى، وانتهاء بالحد الأعلى من الخط هذا.
ونحن لا نعدم كثيراً من بني الإنسان الذين تنعدم عندهم الإنسانية، والتي تصبح قيمتها صفراً على خط الرقي هذا، أي أن مفهوم الإنسانية عندهم يتمثل بالحد الأدنى من هذا المفهوم العام السيال، فهم في أدنى مستويات هذا المفهوم على معيار المقايسة هذه. أي أن هذا الإنسان إنما هو بشر بهيئته، لكنه في حقيقته ليس من بني البشر بشيء، ولا يمت إليهم بصلة، بل إن طباعه وتصرفاته وأخلاقه لا تختلف عن تصرفات وطباع الكائنات الشرسة الكاسرة والمتوحشة، في حين أننا نجد في المقابل أن هناك من يقع حظّه على أعلى نقطة من معيار المقايسة هذه، وهي نقطة الحدّ الأقصى والأعلى من تطبيق هذا المفهوم.
وهذا الأمر لا مراء فيه ولا جدال؛ فكلنا يعرف أن أبناء البشرية غير متساوين في صفاتهم، فهم مختلفون على مستوى الذكاء والعقول، أي أنهم يتفاوتون في هذه الصفات، ويتفاوتون كذلك على مستوى الأخلاق، وعلى مستوى الجسم والقوة والصحة وما إليه مما يقع في إطار المقايسة هذه. وإذا كانت هذه الصفة موجودة عند بني البشر جميعاً، فإننا لا نعدم في المقابل أن نجد شخصاً قد جمع كل صفات الكمال، فهو في القمة من سلم الرقي والكمال البشري في كل شيء؛ سواء كان في الخلق، أو في الكرم، أو في العقل، أو في الزكاء، أو في غير هذه الأمور من صفات كريمة، وسجايا شريفة، وخلال نبيلة وعظيمة ترتفع بصاحبها وترقى به إلى مصافَّ أعلى، وإلى حدود تكاد تغادر الحصة البشرية من جدول الكمال هذا لتدخل في حصة أعلى منه.
فهؤلاء هم في القمة دائماً في كل شيء حسبما يقتضيه العدل والواقع. والمثال الأوضح لهؤلاء هم الأنبياء والأئمة (عليهم أفضل الصلاة والسلام) وكأن الله تبارك وتعالى قد جمع عقل أمة كاملة وذكاءها، فضلاً ومفاخرها وأخلاقها في شخص واحد كما قال الشاعر:
ليس على الله بمستنكر *** أن يجمع العالم في واحد([1])
وعليه فحينما يسأل أحدهم قائلاً: لماذا اختار الله تبارك وتعالى هذا الرجل مثلاً على غيره من بني البشرية؟ فإننا نقول: إن الله جل شأنه هو الذي خلق الخلق، وهو أعلم بما عندهم من مواهب وصفات كريمة وسجايا نبيلة جسيمة عظيمة تؤهّلهم لأن يكونوا في قمة سلم الكمال البشري، وهذه المواهب والصفات والفضائل والمناقب تجعل من الفرد أهلاً لأن يكون في تلك المنزلة التي أعطاها الله تبارك وتعالى، وهو ما تكفلت آية المقام بالإجابة عليه في قولها: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾، أي أن الله جل شأنه هو العالم بطبائع البشري ونفوسهم، وهو العارف بأحوالهم، فهو الذي خلقهم، وهو المطلع على دواخلهم وما تنعقد عليه أنفسهم، وما تنطوي عليه سرائرهم دون أن تكون هذه الأمور منكشفة لمخلوقاته الأخرى؛ وبالتالي فإنه جل شأنه حينما يفضّل أحداً على أحد، أو مكاناً على مكان، فإنه إنما يفضله لعلمه جل شأنه بما عليه ذلك الإنسان أو ذلك المكان أو ذلك الزمان من خصائص تجعل منه أفضل من غيره.
إذن فالله جلّ شأنه هو الخالق لعباده، وهو العالم بما فيه تفوقهم ومزاياهم الداخلية والخارجية التي تجعل منهم في مصافّ أعلى من غيرهم؛ وعليه فإنه جل شأنه إذا ما فضل أحد مخلوقاته على مخلوقاته الأخرى فإنه لا يمكن أن يكون تفضيلاً عاطفياً أبداً، وإنما هو تفضيل موضوعي علمي نابع من قوانين وحقائق يتصف بها ذلك الشخص موضع التفضيل. وهذا بخلاف التفضيل الحاصل عند بني البشر لبعضهم على بعض، فإنه تفضيل نابع من جنبة عاطفية كما هو الغالب في أحوال الناس.
ومع ذلك فإننا لا ندعي أن هذه الصفة عند بني الناس هي الصفة العامة، بل إننا نقول: إنها غالباً هكذا، وإلّا فإن تفضيل الأنبياء والرسل^، وكذلك الأئمة المعصومون^ لبعض على بعض وهم بشر إنما هو تفضيل علمي منطقي واقعي مستمدّ من اختيار السماء، وانتقاء الله سبحانه وتعالى، وليس تفضيلاً عشوائياً أو عاطفياً، وإلّا فإن هذا يعني أنه قدح في عصمتهم^ وعدالتهم، وفي تمثيلهم الحقيقي للسماء، وقيامهم حجة لها على العباد.
إذن فالإنسان العادي من الممكن أن يفضل أحدا على أحد لعاطفة كأن يحبه فيفضله على غيره، أو أن يكون من أبناء عشيرته وجلدته فيفضله على أبناء القبائل الأخرى وهكذا، أما مع الله جل شأنه وسفرائه فإن الأمر مختلف جدّاً؛ ذلك أنهم لا يفضلون إلّا بناء على قواعد علمية واقعية يستحق المفضل عندهم فعلاً ذلك التفضيل من خلالها.
وهذا ما يقودنا إلى الإذعان بأن تفضيله جل شأنه عبداً من عباده على غيره إنما هو تفضيل موضوعي؛ لأنه جل شأنه لا يحتاج أحداً من عباده ولا يحابي أحدا من عباده ولا قرابة بينه وبين أحد من عباده حتى نقول: إنه تفضيل عاطفي، أو إنه تفضيل مبتنٍ على غير قاعدة علمية أو منطقية وواقعية، فهو جل شأنه متجرد عن كل تلك الأمور التي تقدح في عدالة المفضِّل؛ لأنه جل شأنه لا يمكن أن يتصف بواحدة منها. وهذا يقودنا إلى القول بأنه جل شأنه إذا ما فضل فإنما يفضل لوجود ميزة عند المفضَّل استدعت ذلك التفضيل له على غيره. وكذلك الحال مع نبينا الأكرم، ورسولنا الأعظم محمد الحبيب المصطفى| الذي فضله الله تبارك وتعالى لا لعاطفة، أو لعدم استحقاق، بل إنه جل شأنه فضله لأنه رأى فيه أهلية التفضيل على مستوى الأخلاق والصفات الاُخرى من الأمانة والإخلاص والكرم والطاعة وما إلى ذلك، فكل هذه الأمور هي التي أهلته لأن ينال ذلك المستوى العالي الذي أعطاه الله تبارك وتعالى بعد أن كانت أخلاقه عالية كما وصفها القرآن الكريم بقوله جل شأنه: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾([2]).
فكان| في هذا في أعلى مستويات الجود والإخلاص والإيمان وما إلى ذلك من صفات حسنة نبيلة، دون أن يضارعه أحد فيه، فجعله الله تبارك وتعالى في أعلى مستويات الإنسانية. وخلاصة الأمر أن الرسول الأكرم محمداً| إنما كان القمة من بين مخلوقاته جل شأنه، وكان صفوة الباري وخيرته من خلقه لأنه كان متّصفاً بكلّ صفات النبل والكرم، ومتّصفاً كذلك بكلّ السجايا الكريمة والأخلاق النبيلة العظيمة.
يتبع…
____________________
([1]) تفسير المحيط الأعظم 1: 255، 3: 251. تنزيل الآيات على الشواهد من الأبيات (شرح شواهد الكشاف): 378، 396. التفسير الكبير 20: 134. تفسير أبي السعود 5: 149. شرح نهج البلاغة 7: 203.