الاختيار الإلهي ـ 12

img

الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

تحديد ليلة القدر

يروى عن أبي بصير (رضي الله تعالى عنه) أنه سأل الإمام الصادق× فقال له: جعلت فداك، الليلة التي يرجى فيها ما يرجى؟ فقال×: «في إحدى وعشرين، أو ثلاث وعشرين». قال: فقلت: يابن رسول الله، فإن لم أقوَ على كلتيهما؟ فقال×: «ما أيسر ليلتين فيما تطلب!»([1]).

ابن عباس يستقرب ليلة القدر

 هذا فضلاً أن هناك روايات كثيرة تنص على أنها في العشر الأواخر من شهر رمضان المعظم، فقد ورد في الآثار أن في رواية عن ابن عباس (رضي الله عنه) قوله: كان عمر بن الخطاب يدعوني مع أصحاب محمد|، ويقول لي: لا تتكلم حتى يتكلموا. قال: فدعاهم وسألهم عن ليلة القدر، فقال: أرأيتم قول رسول الله|: «التمسوها في العشر الأواخر»، أي ليلة ترونها؟ فقال بعضهم: ليلة ثلاث، وقال آخر: خمس، وأنا ساكت، فقال عمر: ما لك لا تتكلم؟ فقلت: أحدثكم برأيي؟ قال: عن ذلك نسألك. فقلت: السبع؛ فقد رأيت الله ذكر سبع سماوات، ومن الأرض سبعاً، وخلق الإنسان من سبع، ونباتُ الأرض سبع… فقال لهم عمر: ما لكم؟ أعجزتم أن تكونوا مثل هذا الغلام الذي ما استوت شؤون رأسه بعد؟ إني والله ما أرى القول إلّا كما قال([2]).

وهكذا فإننا نجد أن ابن عباس (رضي الله عنه) قد عد للخليفة الثاني أشياء قد حدها الله سبحانه بسبع من جملتها السماوات السبع. وتبقى هذه الأمور كلها مجرد استنتاجات تقريبية، ومحاولات للاقتراب من الليلة الحقيقية التي تقع فيها هذه الليلة المباركة، أما على نحو القطع فليس هنالك من رواية ثابتة تنص على أكثر من أنها في العشر الأواخر من الشهر المعظم كما ذكرنا؛ ولذا فقد ورد: «اطلبوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان، فإن غلبتم فلا تغلبوا على السبع البواقي»([3]).

اعتكاف الإمام الصادق× ليلة ثلاث وعشرين في مسجد جدّه|

 ويروي المحدثون أن الإمام الصادق× مرض مرضاً شديداً، فلما كان ليلة ثلاث وعشرين أمر مواليه، فحملوه إلى المسجد، فكان فيه ليلته([4])؛ فتأكّد للبعض، أو غلب عندهم أنها هي ليلة القدر المشرّفة؛ فقد استقرأ هؤلاء واستقربوا أن هذه الليلة هي ليلة القدر؛ باعتبار أن الإمام الصادق× قد أحب أن يقضيها في مسجد رسول الله|.

اختلاف المسلمين في بدء الشهر المبارك

وتبقى هنا نقطة لابدّ من الإشارة إليها وهي أن المسلمين يختلفون غالباً في رؤية هلال شهر رمضان المبارك، فنجد بينهم فرقاً في تحديد أوله ربما يصل إلى يومين في بعض الحالات أو السنوات؛ ولذا فإننا نجد أن أبا بصير (رضي الله تعالى عنه) يسأل الإمام جعفراً الصادق× في الرواية الآنفة، فيقول: جعلت فداك، الليلة التي يرجى فيها ما يرجى؟ فقال×: «في إحدى وعشرين، أو ثلاث وعشرين». فقال: يابن رسول الله، فإن لم أقوَ على كلتيهما؟ فقال×: «ما أيسر ليلتين فيما تطلب!». قال: فقلت: فربما رأينا الهلال عندنا، وجاءنا من يخبرنا بخلاف ذلك من أرض اُخرى. فقال×: «ما أيسر أربع ليالٍ تطلبها فيها!».

 فقال: جعلت فداك، ليلةُ ثلاث وعشرين ليلةُ الجهني؟ فقال×: «إن ذلك ليقال». قال: جعلت فداك، إن سليمان بن خالد روى أنه في تسع عشرة يكتب وفد الحاجّ. فقال×: «يا أبا محمد، وفد الحاج يكتب في ليلة القدر، والمنايا والبلايا والأرزاق وما يكون إلى مثلها في قابل، فاطلبها في ليلة إحدى وعشرين، وثلاث وعشرين، وصلِّ في كلّ واحدة منهما مئة ركعة، وأحيِهما إن استطعت إلى النور، واغتسل فيهما». قال: فإن لم أقدر على ذلك وأنا قائم؟ فقال×: «فصلِّ وأنت جالس». قال: فإن لم أستطع؟ قال×: «فعلى فراشك، لا عليك أن تكتحل أول الليل بشيء من النوم. إن أبواب السماء تفتح في رمضان، وتصفد الشياطين، وتقبل أعمال المؤمنين. نعم الشهر رمضان، كان يسمى على عهد رسول الله| المرزوق»([5]).

وعلى أية حال فالمسألة لم ترد فيها رواية ناصة على ليلة بخصوصها، بل إننا نجد أن جميع الروايات التي تكفلت ببيان هذا الجانب قد عظّمت الزمن من خلال العشرة الأواخر من هذا الشهر الفضيل كما ذكرنا آنفاً؛ ولذا فإن على المؤمن أن يقبل على الله تبارك وتعالى في هذه الليالي العشر التي جعلها الله تبارك وتعالى موضع ليلة القدر، ومباءة الرحمة، فكان على الإنسان حقّاً أن يقبل فيها على الله سبحانه بالعبادة والطاعة والتقرب إليه جل شأنه بامتثال أوامره والابتعاد عن معاصيه ونواهيه، والانغماس في الصلاة وقراءة القرآن والذكر وما إلى هناك دون أن يدع أي ضميمة مبطلة تمازجها كالرياء مثلاً؛ فإن أمكن هذا المسلم أن يؤديها في المسجد مع المسلمين دون أن تكون جماعة فليفعل، وإلّا فإنه إن لم يجد من نفسه القدرة على عدم ضم إليها بعض المبطلات كالرياء وما إلى ذلك فليصلِّها في منزله حتى تكون خالصة إلى الله تبارك وتعالى بابتعاده عن أي شيء ممكن أن يدخله في دائرة الرياء، ونطاق المعصية.

وإني إذ أقول هذا لأنني وغيري نعرف أن الإنسان في بعض الأحيان يصيبه العُجب ـ أي الإعجاب بالنفس ـ حينما يكون بين الناس ومعهم، وهذا العجب يكون ماحقاً للعمل فضلاً عن الثواب المترتّب عليه؛ ولذا فإنه لابدّ من التخلص من آثار هذا المرض بالقضاء على مسببه الأساس وهو الإتيان بالعبادات بين الناس، ففي مثل هذه الحال لابدّ أن تكون العبادة في البيت؛ حتى لا يصيبه ما يمحق عمله، ويذهب بعبادته. ومعلوم أن الإنسان حينما يصلي ركعتين في جوف الليل بينه وبين الله تبارك وتعالى بنية صافية صادقة خالصة له جل شأنه؛ فإنهما أفضل من صلاة ما لا يحصى ولا يعدّ من الركعات التي يقومها بين الناس، مشوبة بالرياء والعجب.

إذن فالإنسان لابدّ أن يستغل هذه الليالي في التقرب إلى الله تبارك وتعالى حيث يقبل عليه جل شأنه في ظلام الليل يسأله عطاءه الواسع ورحمته التي لا تنفد، والتي لا تحتجب عن أحد.

يتبع…

________________________

([1]) الكافي 4: 156، باب في ليلة القدر، ح2. من لا يحضره الفقيه 2: 159، باب الغسل في الليالي المخصوصة في شهر رمضان و…، ح2029. تهذيب الأحكام 3: 58، ب4، ح201.

([2]) الكشف والبيان عن تفسير القرآن10: 251 ـ 252. السنن الكبرى 4: 313. سير أعلام النبلاء 3: 345. عمدة القاري 11: 137. المستدرك على الصحيحين 1: 437 ـ 438. فتح الباري 4: 226. كنز العمال 13: 453 ـ 454 / 37176.

([3]) مسند أحمد 2: 44، 75، 78، 91. صحيح مسلم 3: 170، 173. السنن الكبرى (البيهقي) 4: 311.

([4]) الإقبال بالأعمال الحسنة 1: 386. بحار الأنوار 95: 169.

([5]) الكافي 4: 156، باب في ليلة القدر، ح2. من لا يحضره الفقيه 2: 159، باب الغسل في الليالي المخصوصة في شهر رمضان و…، ح2029. تهذيب الأحكام 3: 58، ب4، ح201.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة