الاختيار الإلهي ـ 11
الشيخ الدكتور أحمد الوائلي
الخامس: خيرته من الأوقات والأزمنة
أما أفضل الأوقات التي اختارها الله تبارك وتعالى، فمن الشهور شهر رمضان المعظم، فشهر رمضان المشرف هو أعظم الشهور وأحبها إلى الله تبارك وتعالى.
شرف شهر رمضان
وشرف هذا الشهر يكون على نمطين:
الأول: الشرف الذاتي
والمراد بالشرف الذاتي هنا هو أن الله تبارك وتعالى قد شرفه على الشهور جميعها كما ذكرنا، فأعطاه هذه الميزة العظيمة التي لم ينلها شهر آخر من الشهور؛ فكان بهذا شهر الله تبارك وتعالى. ونحن نعلم أن إضافة شيء إلى شيء تكتسب المضاف شرف المضاف إليه كما نقول: بيت الله، ليستمد قدسيته من قدسية الله سبحانه، وكذلك الحال هنا مع هذا الشهر المعظم الذي نسبه الله جل شأنه إلى نفسه، فسمي شهر الله جل شأنه مستمدّاً بذلك هذه القدسية العظيمة التي هي له سبحانه.
الثاني: الشرف العرضي
والمراد بالشرف العرضي هنا: أنه مفهوم يقع على جملة معانٍ تمثل موارد حصوله وتحقّقه في الواقع والمجتمع، وهذه الموارد هي:
أنه شهر التهجّد والعبادة
فالمورد الأول هو أن الله سبحانه وتعالى جعل من هذا الشهر ظرفاً لعبادته، وزمناً لعبادة اختص بها نفسه فقال: «كلّ عمل ابن آدم له غير الصيام؛ هو لي وأنا أجزي به»([1]). وهذا يعني أن هذا الشهر هو شهر عظيم وشريف قد اختص الله تبارك وتعالى به عبادة جعلها له جل شأنه فهو يجزي بها الصائمين. فهو إذن شهر التعبد والتهجد، وشهر الانقطاع إلى الله سبحانه وتعالى؛ لما ورد من الأدعية والعبادات والصلوات المختصة به، والتي تتأدى على مدى ليلتيه التسع والعشرين أو الثلاثين، كصلاة الألف ركعة، وصلاة جعفر وما إلى ذلك.
أنه شهر إعزاز الإسلام والمسلمين
والمورد الثاني هو أنه جل شأنه جعل فيه الأيام التي أعز بها الإسلام والمسلمين؛ حيث انتصروا بها في واقعة بدر، وحيث فتحوا مكة فيه. فهذان اليومان مما يزيدان هذا الشهر شرفاً؛ كونهما قد حققا إرادة السماء في نشر الإسلام وانتصاره على أعدائه في هذه الأرض.
أنه شهر نزول المصحف الشريف
والمورد الثالث هو أن القرآن الكريم قد نزل فيه على نبينا محمد| في ليلة القدر، أو نزل من السماء السابعة إلى السماء الرابعة.
أنه شهر تضمّن ليلة هي خير من ألف شهر
والمورد الرابع: هو أن فيه ليلة القدر التي هي أفضل أوقات العبادة؛ كونها أفضل الليالي على الإطلاق؛ فهي الليلة التي تكتب فيها على بني الإنسان المنايا والبلايا وما إلى ذلك مما يمكن أن يجري عليه سائر السنة.
شهادة نبيّنا الأكرم| في شهر رمضان
إذن فهذا الشهر هو أفضل الشهور، وهو أهم الشهور بالنسبة للإنسان؛ ولذلك فقد ورد في الحديث النبوي الشريف أنه| لما حضر شهر رمضان، وذلك في ثلاث بقين من شعبان قال لبلال: «نادِ في الناس». فجمع الناس، ثم صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أيها الناس إن هذا الشهر قد خصكم الله به، وهو سيد الشهور، ليلة فيه خير من ألف شهر، تغلق فيه أبواب النار، وتفتح فيه أبواب الجنان. فمن أدركه ولم يغفر له فأبعده الله، ومن أدرك والديه ولم يغفر له فأبعده الله، ومن ذكرت عنده فلم يصلِّ علي فلم يغفر الله له فأبعده الله»([2]).
وهذا يعني أن الله سبحانه وتعالى في هذا الشهر يفتح أبواب السماء لمناجاة المناجين ودعوات الداعين، وصلوات المصلين، وتنسك المتنسكين، وعبادة المتعبدين، فهو شهر يمثل مائدة السماء على الأرض التي تحفل بكل ألوان الطيبات. وقد ورد في بعض الروايات أن الله تبارك وتعالى يفتح مائدته في هذا الشهر ويدعو عباده إلى الإقبال عليها، يروى أن رسول الله| قال فيه: «يصدر النداء من ملكين من قبله تعالى: هل من تائب فيتاب عليه؟ هل من سائل فيعطى؟ هل من مستغفر فيغفر له؟ هل من طالب حاجة فتقضى له؟ فأجيبوا داعي الله، واطلبوا الرزق فيما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس؛ فإنه أسرع في طلب الرزق من الضرب في الأرض، وهي الساعة التي يقسم الله فيها الرزق بين عباده»([3]).
وإذا كانت الأبواب التي يقف عليها الإنسان في الدنيا طالباً من أصحابها شيئاً أو متاعاً من الممكن أن تشعره بالذل والخضوع والهوان وإراقة ماء الوجه وإراقة الكرامة، أو لا أقل من أن يحصل عند الإنسان شعور بذلك فيتملّكه، عنوانه الذل والخضوع والهوان كما ذكرنا، فإن باب ربّ الأرباب سبحانه وتعالى أوسع الأبواب، ومائدته الكريمة جلّ شأنه سيما في هذا الشهر الكريم العظيم لا يمكن أن يستشعر معها الإنسان أي شيء من تلك المشاعر التي مر أنه يستشعرها بوقوفه على أبوابا العباد، فباب الله سبحانه مفتوح لسائليه لا يردّ سائلاً، ولا يخيّب آملاً، والله سبحانه إذ يعطي فإنما يعطي كثيراً، وإذ يمنح فإنما يمنح جزيلاً ووفيراً؛ لأن عطاءه سبحانه وتعالى غير منقوص ولا مجذوذ؛ فنحن كلنا من عطاء الله تبارك وتعالى، ووجودنا فيض من فيوضاته جلّ وعلا، وحياتنا نعمة من نعمه جل شأنه، وتبارك جدّه: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾([4]). ولذا فإن أحد الشعراء ينادي ربه مجسدا هذا المعنى الشريف بلوحة أدبية رائعة حيث يقول:
ربّ روحي طليقة في مناجا *** تك والجسم مصْفَدٌ مكبولُ
بَعُدَ الفرق بين روحي وجسمي *** جسدي آثمٌ وروحي بتولُ
وأنا السائل الملحّ ويجلو *** وحشة الذلّ أنك المسؤولُ ([5])
فليس عيباً أن يقف الإنسان على باب الله جل شأنه؛ لأن بابه سبحانه كله عطاء للسائلين، بل هو عنوان الرحمة، وهو الباب الذي لا يستتبع الواقف عنده لون من ألوان الذلّ مطلقاً؛ لأن الله تبارك وتعالى كما ذكرنا كله عطاء، وهو سبحانه محض الخير ومحض الرحمة والشفقة والرأفة (نسأل الله تبارك وتعالى ألّا يحرمنا من رحمته في هذه الليلة الكريمة وفي أمثالها من ليالي الله؛ فكل لياليه كرم وخير).
إذن فليلة القدر الشريفة هي أفضل ليالي شهر رمضان المبارك، وهذا الشهر هو أفضل الأوقات عند الله سبحانه، وكما أنه تبارك وتعالى اختار من الأوقات شهر رمضان، فقد اختار من هذا الشهر الشريف هذه الليلة المباركة الكريمة، وهي ليلة القدر المباركة التي هي ﴿خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾([6])، والتي يقدر فيها الله تبارك وتعالى البلايا والمنايا، والأرزاق والعطايا كما مرّ بنا آنفاً.
يتبع…
__________________
([1]) فضائل الأشهر الثلاثة: 134. المجازات النبويّة: 190. صحيح البخاري 2: 228، 7: 61. صحيح مسلم 3: 157. سنن ابن ماجة 1: 525 / 1638، 2: 1256 / 3823. السنن الكبرى (النسائي) 4: 163، 164.
([2]) الكافي 4: 67، باب فضل شهر رمضان، ح5. من لا يحضره الفقيه 2: 96، باب فضل شهر رمضان وثواب صيامه، ح1832. الأمالي (الصدوق): 113 / 92. ثواب الأعمال: 65، 66 ـ 67. فضائل الأشهر الثلاثة: 74 / 55. روضة الواعظين: 340. تهذيب الأحكام 4: 192، ب47، ح549. الكامل (ابن عدي) 6: 381.
([3]) الخصال: 616، باب الواحد إلى المائة، ح10. تحف العقول: 106. وسائل الشيعة 7: 67، أبواب الدعاء، ب25، ح8746. بحار الأنوار 10: 94، 80: 26 ـ 27، 90: 343 ـ 344. وفي الجميع أنه ليس بخصوص ليلة القدر، بل هو في غيرها؛ ففيها جميعاً: «من كانت له إلى ربه عز وجل حاجة فليطلبها في ثلاث ساعات: في يوم الجمعة. وساعة تزول الشمس حين تهب الرياح وتفتح أبواب السماء، وتنزل الرحمة، ويصوت الطير. وساعة في آخر الليل عند طلوع الفجر».