كشكول الوائلي _ 213

img

المبحث الثاني: ألقاب الإمام الرضا عليه السلام

وبعد أن وضعت أروى مولودها الكريم المبارك، أسماه الإمام الكاظم عليه السلام بأحبّ اسم، وهو اسم عليّ الذي كان أهل البيت عليهم السلام يحرصون على التسمّي به؛ لأ نّه اكتسب مكانة ممّن سمي به، وهو أمير المؤمنين عليه السلام. ولقب عليه السلام بألقاب عدة منها الوفي والصابر والسلطان والرضا، وهو أشهرها:

الصابر

ولقب الصابر جاء من صبره في مواقف صعبة جدا يصعب معها الصبر على من هو غيره، وكما سيمرّ بنا إن شاء اللّه تعالى خلال الأبحاث القادمة. فالإمام عليه السلام كان مثال التصبّر والتجلّد، ولم يُبدِ تأثّرا أو تألّما مطلقا.

الوفي

وهو لقب استحقّه بجدارة وأهلية تامة، لأ نّه عليه السلام كان بحق وفيّا لرسالته المناط به أداؤها، ولدوره الذي تحمّل عب‏ء القيام به كما هو شأن آبائه وأبنائه الطاهرين المنتجبين عليه السلام.

الرضا

ويراد به رضا اللّه في أرضه ورضا الناس عنه في الدنيا؛ لأ نّه عليه السلام نادرا ما واجه معارضة في ولاية العهد التي قبلها. وكان الأعمّ الأغلب يرى أنّ هذا المنصب هو دون منصب الإمامة، وهو كذلك فعلاً وبكثير.

السلطان

وهو أبرز الألقاب بعد لقب الرضا، وقد ورد في الزيارة الشريفة خاصّته: «السلام عليك أيها السلطان علي بن موسى الرضا». ونجد هناك إصرارا من البعض على هذا اللقب مع أنه لا يعني شيئا له عليه السلام، فمروان بن الحكم صار سلطانا، وكذلك يزيد صار سلطانا، وكذلك أمثالهما. فالإمام عليه السلام لا يزيده شيئا كونه سلطانا؛ فيكفي أن يقال عنه: الرضا، الوفي، الصابر، وغيرها من الألقاب الدينية الشريفة، ومثل هذا اللقب لا يقدم شيئا للإمام عليه السلام ولا يؤخّر عنه شيئا.

المزايا المجعولة والمنجعلة

إن العلماء يقسمون المزايا إلى قسمين: مجعولة ومنجعلة، وهذا اللقب داخل ضمن المزايا المجعولة. وسنجمل هذه المزايا بالآتي:

المزايا المجعولة

وهي المزايا التي تأتي من خلع أحد على أحد آخر لقبا من قبيل وزير أو قائد أو عقيد، أو غير ذلك من ألقاب السلطة. وهذه الألقاب (المزايا) مرتبطة عادة بالمهنة، فإذا اُبعد الملقّب بها عن منصبه فقد ذلك اللقب وذهب عنه، وإن كان البعض يستمرّ معه لقبه، لكن تجوّزا وليس حقيقة؛ لأ نّه لقب مجعول ينفك عن صاحبه بمجرد تركه داعيه أو السبب له وهو المنصب أو المهنة.

المزايا المنجعلة

أما المزايا المنجعلة، فهي المزايا التي تعدّ من الملكات الروحية التي لا تنفك عن صاحبها ولا تفارقه، ولا يمكن أن يسلبه أحد إيّاها. وذلك مثل لقب عالم أو إمام حقّ، فلا يمكن أن يقول أحد أنّ فلانا بعد موته لا يمكن أن يسمى عالما أو الإمام كذلك، يقول الشاعر:

إن الأمير هو الذي *** يُمسي أميرا يوم فَصلهْ

إن زالَ سُلطانُ الولا *** يةِ لم يَزُل سُلطانُ فضلهْ

إذن الفضل والعلم من الصفات الملازمة للإنسان ولا يمكن أن ينفكّا عنه.

وهذا ما ينطبق على الإمام الرضا عليه السلام؛ فليس شيئا ذا شأن أن يقال عنه: سلطان ـ كما مرّ ـ وهو لقب مجعول. فصفاته الشريفة الاُخرى وألقابه الكريمة المنجعلة أحقّ أن يوصف بها وأن ينعت ويلقّب؛ لأ نّها مشتقّة من ذاته الشريفة المباركة، أمّا لقب السلطان فهو لقب يمقته الإمام عليه السلام؛ لأن الظروف السياسية وضعته أمام الأمر الواقع، وأدّت به إلى قبول هذا اللقب، وليس عن رضا نفس أو قناعة به. فهو لقب ـ كما مر ـ لا يقدم ولا يؤخّر في حقّ الإمام عليه السلام.

ثم إنه صحيح أنّ بعض الناس يرفع من قدره السرير لكن البعض الآخر لا يؤثر فيه السرير رفعة ولا مقاما؛ لأ نّه بلغ الغاية القصوى والشأو الأبعد في الكمال والمنزلة. سئل أحمد بن حنبل بعد أن طال النقاش عنده حول أمير المؤمنين عليه السلام وخلافته، فقال: «قد أكثرتم، إن كانت الخلافة قد زيّنت غير علي، فإن عليا قد زان الخلافة»(1). وهنا يخاطبه أحد الاُدباء بقوله:

إني أتيتُك أجتليك وأبتغي *** وِردا فعندك للعطاش معينُ

وأغضُّ من طرفي أمام شوامخٍ *** وقع الزمان واُسُّهُنَّ متينُ

وأراك أكبرَ من حديث خلافةٍ *** يستافُها مروانُ أو هارونُ

لك بالنفوس إمامةٌ فيهونُ لو *** عصفت بك الشورى أو التعيينُ

فدع المعاول تزبئرّ قساوة *** وضراوة إن البناء متينُ(2)

إذن أهم ألقاب الإمام عليه السلام هو الرضا، وهو أشهرها وأحبّها إلى نفسه الكريمة.

المأمون يجمع له علماء دار الخلافة

وهكذا كان الإمام عليه السلام يجلس متصديّا لأسئلة الناس، حتى إن المأمون جمع له جماعة من علماء الأديان ليناظروه، وراحت الأسئلة تنهال على الإمام عليه السلام، فأجابهم جميعهم، حتى إن المؤرّخين يقولون: ما تلكّأ في جواب قط. وهكذا كان عليه السلام يتصدّى للإجابة على جميع الأسئلة الفقهية وغير الفقهية.

جوابه عمن سأله عن معنى الجواد

وقف أحدهم للإمام عليه السلام في الطواف وقال له: من الجواد؟ فقال عليه السلام : «إن لكلامك وجهين: فإن كنت تسأل عن المخلوقين، فإن الجواد الذي يوءدّي ما افترض الله عليه، والبخيل من بخل بما افترض الله، وإن كنت تعني الخالق فهو الجواد إن أعطى وهو الجواد إن منع؛ لأنه إن أعطاك أعطاك ما ليس لك، وإن منعك منعك ما ليس لك»(3).

ذلك أنّ اللّه تعالى عندما يمنع عطاءه عن بعض الناس فإنما يمنعه لمصلحة اقتضتها حكمته وارتأتها مشيئته، كأن يريد أن يربيهُ؛ فبعض الناس إذا اُعطي أفسد. ونحن نخاطب اللّه عزّ وجلّ في دعاء الافتتاح فنقول: «ولعل الذي أبطأ عني هو خير لي؛ لعلمك بعاقبة الاُمور»(4).

ولاُقرب لك المعنى بأن أروي لك الحادثة التالية: كان أحد الصحابة ثقيل السمع، وكان من الفقراء، وكان يحرص على أن يجلس إلى جانب النبي صلى الله عليه وآله؛ كيلا يفوته شيء من كلامه، وكان قيس بن ثابت من وجهاء الأنصار، وقد دخل يوما على النبي صلى الله عليه وآله، وشقّ طريقه إليه كي يجلس إلى جانبه ويستمع إليه أيضا، وكان يظن أن هذا الفقير سوف يتنحّى له عن مكانه ويتركه من أجله؛ لأنه يظن أنه أفضل منه باعتباره غنيا ووجيها، وهذا من عائلة فقيرة، لكنه لم يفعل؛ اعتزازا بقرب مكانه من النبي صلى الله عليه وآله، فقال له قيس: يابن فلانة، أقف عليك ولا تقوم؟

فآذت هذه الكلمة النبي صلى الله عليه وآله؛ لأن العرب كانوا يقصدون من تسمية الشخص باسم اُمّه في مثل هذه المواقف تحقيرا له، فلما فرغ صلى الله عليه وآله من كلامه ناداه فأقبل، فقال صلى الله عليه وآله له: «انظر، ماذا ترى في المجلس؟». قال: أرى الأحمر والأبيض والأسود. قال النبي صلى الله عليه وآله: «إنك لا تفضل على أحد منهم إلاّ بالتقوى والعمل الصالح». فقال: يا رسول اللّه أخطأت، وساُعطيه نصف أموالي إن رضي عني.

فنادى النبي صلى الله عليه وآله الرجل الأوّل وقال له: «سمعت ما قال أخوك، هل ترضى عنه ويعطيك نصف أمواله؟». قال: روحي فداك، بل أرضى عنه من غير هذا. قال النبي صلى الله عليه وآله: «لماذا؟». قال: أخشى أن يدخلني ما دخله(5).

وهذا هو موضع الشاهد، وهو أنّ الإنسان حينما يمتلك ثروة أحيانا فإنّه يطغى في الأرض ويفسد، وقد تقضي على أخلاقه التي هي أهم من الثروة بالنسبة للرجل، لكن الأخلاق تبقى ميزة متصلة بالإنسان لا تبتعد عنه.

إذن كان الإمام عليه السلام يقول: إنّ اللّه تعالى جواد سواء أعطى أو منع؛ لأ نّه لا يريد من وراء عطائه أو منعه مصلحة ما، وأجوبته عليه السلام كلها من هذا النوع. وكان عليه السلام يستشهد بما يرويه عن آبائه عليهم السلام عن أمير المؤمنين عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: «قال الله عز وجل: ما آمن بي من فسّر برأيه كلامي، وما عرفني من شبّهني بخلقي»(6).

فالقرآن الكريم لا يمكن أن يفسّر بالرأي؛ لأنّ التفسير بالرأي بإجماع المسلمين باطل، أمّا التفسير القائم على أساس الوسائل العلمية فهو تفسير مقبول ولا بأس به.

ويقول صلى الله عليه وآله عن اللّه‏ تعالى: «ما على ديني من استعمل القياس في ديني»(7).

يعني بهم هؤلاء الذين يستعملون القياس دون أن يكون مستندا إلى علة معروفة صحيحة. ومثال ذلك أن يعمد أحد إلى قياس مقاربة الأهل في شهر رمضان على تعمّد الأكل والشرب فيه أو بالعكس؛ بحجّة أنّهما كليهما من المفطّرات المنهيّ عنها والمبطلة للصوم. وهذا القياس باطل بالضرورة ومخطوء وغير مقبول؛ لأنّ اللّه عزّ وجلّ فرّق بين المتساويات وساوى بين المتفرقات.

ولتوضيح هذا الأمر نقول: إنّ اللّه تعالى جعل من نواقض الوضوء النوم والذهاب إلى الحمام (التخلّي )، وهما أمران متباينان لكنه تعالى جمع بينهما، وكذلك لو سرق أحد ربع دينار من حرز فإنّ يده تقطع(8)، لكن إذا غصب أرضا قيمتها مئة ألف دينار فإن يده لا تقطع، ويكون له حكم آخر(9)، والحال أنّ هاتين الحالتين متساويتان، لكن اللّه تعالى فرّق بينهما، إذن القياس لا يجري دائما.

وقد ناقش الإمام الصادق عليه السلام أبا حنيفة في القياس نقاشا عسيرا(10).

يتبع…

___________________

(1) الهداية الكبرى: 12، شرح نهج البلاغة 1: 52، تاريخ مدينة دمشق 42: 446، تاريخ بغداد 1: 145.

(2) ديوان المحاضر 1: 20.

(3) مشكاة الأنوار: 407، تحف العقول: 408.

(4) مصباح المتهجد: 564 / 664.

(5) الكافي 2: 262 / 11، بحار الأنوار 22: 131 / 108، ولم يسميا قيسا.

(6) التوحيد: 68 / 32، الأمالي ( الصدوق ): 55 – 56.

(7) المصدر نفسه.

(8) المقنع: 444، الاُم 4: 311، 6: 159.

(9) المراسم العلويّة: 260.

(10) علل الشرائع 1: 86، الأمالي ( الشيخ الطوسي ): 645، مناقب آل أبي طالب 3: 376، أخبار القضاة ( محمد بن خلف بن حيان ) 3: 78. وذلك أن أبا حنيفة دخل على أبي عبد الله عليه السلام فقال له: «يا أبا حنيفة، بلغني أنك تقيس». قال: نعم أنا أقيس. قال عليه السلام : «اتق الله ولا تقس؛ فإن أول من قاس إبليس حين قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ الأعراف: 12. فقاس ما بين النار والطين، ولو قاس نوريّة آدم بنوريّة النار عرف الفضل ما بين النورين، وصفاء أحدهما على الآخر. ولكن قس لي رأسك: أخبرني عن الملوحة في العينين، وعن المرارة في الاُذنين، وعن الماء في المنخرين، وعن العذوبة في الشفتين، لأي شيء جعل ذلك؟».قال: لا أدري. قال: فأنت لا تحسن أن تقيس رأسك، فكيف تقيس الحلال والحرام؟». قال: يابن رسول الله، أخبرني ما هو؟ قال عليه السلام: «إن الله عزّ وجلّ خلق العينين فجعلهما شحمتين، وجعل الملوحة فيها ضنّا منه على ابن آدم، ولولا ذلك لذابتا فذهبتا. وجعل المرارة في الاُذنين ضنّا منه عليه، ولولا ذلك لهجمت الدوابّ فأكلت دماغه. وجعل الماء في المنخرين ليصعد التنفس وينزل ويجد منه الريح الطيبة من الريح الرديئة. وجعل العذوبة في الشفتين ليجد ابن آدم طعم لذّة مطعمه ومشربه».

 ثم قال عليه السلام له: «أيما أعظم عند الله قتل النفس أو الزنا؟». قال: لا، قتل النفس. فقال له عليه السلام: «إن الله عز وجل قد رضي في قتل النفس بشاهدين، ولم يقبل في الزنا إلاّ بأربعة. أيما أعظم عند الله الصوم أم الصلاة». قال: لا، بل الصلاة. فقال عليه السلام: «فما بال المرأة إذا حاضت تقضي الصيام، ولا تقضي الصلاة؟».

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة