كشكول الوائلي _ 199

img

الثالث: النشاط التربوي

لقد كانت جوانب مسجد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله تردّد صدى خطب الإمام السجاد عليه السلام، فلقد كان عليه السلام يخطب كل جمعة ويذكّر الناس بالآخرة والجنة والنار والحساب والعقاب. وكان عليه السلام يقول: «من جمعة إلى جمعة فترة يحتاج الناس فيها إلى من يذكّرهم بآلاء الله تعالى وبأيّامه، ويدعوهم إلى القرب منه». وهكذا يبدأ الإمام عليه السلام خطبته. ولا يمكن لأحد أن يتصوّر مقدار عطاء الإمام عليه السلام فهو عطاء يقصر اللسان عن وصفه والفكر عن حصره.

دور الإمام عليه السلام بعد واقعة الطف

وهكذا نجد أنّ للزمن ألسنا تردّد مِدَح هذا الإمام العظيم وتتغنى بالثناء عليه، وهو عليه السلام أهل لذلك؛ إذ أنه لم يتخلّف عن أداء واجبه أبدا في الميادين التي يريدها اللّه عزّ وجلّ كافّة؛ سواء كانت ميادين علمية أو عملية. هذا قبل واقعة الطف، أما بعدها فالباحث يجد أن العب‏ء قد اشتدّ والمسؤولية قد كبرت على الإمام السجاد عليه السلام، وازدادت بحكم تسنّمه منصب الإمامة الشرعية، وفي المقابل يجد أن ضغط الاُمويين قد اشتدّ عليه أكثر؛ لأ نّهم كانوا يظنون أن الإمام عليه السلام سوف لن يسكت بعد الواقعة.

سرّ عدم اشتراكه في الحركات التي أعقبت وقعة الطف

كما أن الباحث المنصف سيجد أنه عليه السلام قد أخذ حجم الزمن وحجم مَن حوله؛ ولذلك لم يشترك بواقعة الحرّة ولا بواقعة بعدها. وهناك أسباب كثيرة منعته من القيام بأي تحرّك أو الاشتراك بتحرّك قام به غيره في عصره، ومن هذه الأسباب:

الأوّل: طبيعة الجوّ آنذاك وعداؤه لأهل البيت عليهم السلام

أننا إذا أمعنّا النظر في الظروف التي عاشها الإمام عليه السلام فسنجد أن الأجواء في عصره كانت مشحونة ومعبّأة ضد أهل البيت عليهم السلام. وأبسط مثال على هذا أنّ أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام وسيما الذين استشهدوا معه تحت رايته قد حرمت السلطات أبناءهم من عطائهم ونصيبهم من بيت المال؛ بغضا لأمير المؤمنين عليه السلام. فالإمام عليه السلام لم يجد المجال الكامل للتحرّك والذي يمكن أن يوصله إلى الهدف الذي يراد من مثل هذه التحركات.

ولذا فإنّه عليه السلام لجأ إلى الدعاء كمجال للتحرّك الفكري والنفسي وإعداد الاُمّة لذلك، وفي الوقت نفسه لجأ إلى مجال العلم والمعرفة. وهي مجالات لا تستلزم سلّ سيف أو قتالاً؛ لأ ن الإمام عليه السلام كان عارفا بحجم المسؤولية من جهة وحجم من هم حوله؛ وهذا ما دعاه إلى عدم الاشتراك في هذه الحركات. وإلاّ فإنّه عليه السلام من بيت لا يجرؤ أحد أن يصفه بالجبن أو ينعته بالتخاذل وإن كان عليه السلام لم يسلم من هذه التهمة البشعة، حيث إن أحد الكتاب قد وصفه بتلك التهمة بقوله: إنّه لم يثُر ولم يخرج لأ نّه متأثر بأخواله، يعني الفرس.

لكن هل إنّ زين‏العابدين عليه السلام وحده متأثر بأخواله، أم إنّ هذا التأثر يشمل أبناء الخليفتين أبي بكر وعمر؟ إن كون الفرس أخوالاً لأحد لا يعدّ عيبا وليس فيه ضير على ذلك الرجل، والمذاهب الإسلامية بأجمعها مدينة للفرس بالفلاسفة والعظماء والفقهاء والمحدّثين والمناطقة والمتكلّمين والكتّاب عامّة حتى على صعيد اللغة العربية وعلومها وآدابها. فهل السجاد عليه السلام هو الوحيد الذي تأثّر بالفرس؟ إنّ هذا الكلام غير علمي ولا يعتدّ به.

فأهل البيت عليهم السلام أبعد ما يكونون عن الجبن، وبيتهم أشجع البيوت وأشرفها، بل هم أصل الشجاعة ومنبعها ومثالها، لكن في الوقت نفسه هم مثال التعقّل(1). فللظروف حكمها أحيانا، وهذا ما دفع الإمام عليه السلام لأن يتّخذ خطوة الدعاء والمناجاة والتعبئة الفكرية والعلمية والدينية سلاحا بدلاً من السيف.

يتبع…

________________

(1) يقول المتنبي:

 الرأي قبل شجاعة الشجعان *** هو أولٌ وهي المحلّ الثاني

 انظر شرح نهج البلاغة 20: 43.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة