كشكول الوائلي _ 201

img

في معنى الغفور الودود

ثم قالت الآية الكريمة: وهو الْغَفُورُ الْوَدُودُ. وهنا صفتان اُخريان هما:

الأُولى: الغفور

الغفور هو ذو النفس الكبيرة، الذي لا يعاقب مع أنّه يمتلك القابلية والقدرة والاستطاعة على إيقاع تلك العقوبة على الطرف المقابل متى شاء. أي أنّه لا يستعجل بالعقوبة؛ لأ نّه يستطيع إجراءها متى أراد ذلك، وعليه فإنّه لا يعاجل المسيء بها: «إنما يعجل من يخاف الفوت»(1)، وهو تعالى لا يخاف الفوت.

هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فإنّ الغفران خير من العقاب، فنحن نقرأ مثلاً في القرآن الكريم: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ(2). والمسألة لا تعدو كونها إجراءً تأديبيا؛ لأنّ العقوبة عند اللّه تعالى ليست انتقاما، فهو تعالى يريد أن يؤدّب العبد ويردع به غيره، ولذا فإنّه لا يعاجله بالعقوبة ليعطيه فرصة للتوبة والندم والتراجع عن فعل المعصية.

بين النفس الكبيرة والنفس الصغيرة

وهذا الأمر كان ولا زال خطّا فاصلاً بين النفوس الكبيرة والنفوس الصغيرة في هذا الميدان؛ فالنفوس الصغيرة التي تخاف أن تفوتها الفرصة التي تواتيها تُسرع لإيقاع العقاب، أمّا النفس الكبيرة فتترفع عنه. وسأروي في هذا المجال روايتين إحداهما تنم عن نفس صغيرة تخشى الفوت فتعاجل الآخرين بالعقوبة، والثانية تنمّ عن نفس كبيرة تتسامى فوق الدنيا كلها وفوق كل ما هو مادي.

مروان الحمار يعاجل عدوّه بالعقوبة

تقع أحداث الرواية الاُولى في أيّام مروان الحمار آخر خلفاء بني اُميّة، وذلك أنّ أبا مسلم الخراساني ـ وكان يدعو سرّا لبني العبّاس ـ كتب كتابا ووجّه به إلى إبراهيم أخي أبي العبّاس السفّاح، والملقّب بالامام يذكر له فيها اشتداد شوكته وتمكّنه، وأنه في طريقه إلى الظفر، ويطلب منه الرأي والمشورة. فوقع الكتاب في يد مروان؛، فساوم الرسول على حياته مقابل أن يذهب بالكتاب إلى إبراهيم ثم يأتيه بالجواب، وأعطاه عشرة آلاف درهم مكافأة. فذهب بالكتاب إلى إبراهيم الذي كتب كتابا لأبي مسلم الخراساني يأمره فيه بألاّ يبقي أحدا بأرض خراسان ممّن يتكلّم بالعربيّة إلاّ أباده.

فانطلق الرسول بالكتاب إلى مروان، فوضعه في يده، فكتب مروان إلى الوليد بن معاوية بن عبد الملك عامله على دمشق أن اكتب إلى عامل البلقاء فليسيّر إلى كداد والحميمة، وليأخذ إبراهيم بن محمد فليشدّه وثاقاً، ثم ليبعث به إليك في خيل كثيفة، ثم وجه به إلي. فأتاه وهو جالس في مسجد القرية فأخذ وحمل إلى حران، فاُدخل على مروان فأنّبه وشتمه، بعد أن أراه رسالته، فأحسّ إبراهيم بأنه قد أُتي من مأمنه، ثم قال له مروان: أدركك الله بأعمالك الخبيثة، فإن الله عزّ وجلّ لا يأخذ على أول ذنب، اذهبوا به إلى السجن.

فحبسوه أيّاما، وكان معه اثنان من بني اُميّة هما: عبد الله بن عمر بن عبد العزيز والعبّاس بن الوليد بن عبد الملك بن مروان. يقول الثعلبي ـ وكان معهما في السجن ـ: ثم وجّه بعد شهرين قوما فدخلوا السجن ليلاً فغموا عبد الله بن عمر والعبّاس بن الوليد وإبراهيم، فلما أصبح الصباح وجدوهم ميّتين، ويقال: اُدخل رأس إبراهيم في جراب نورة حتى مات(3).

وهذا التصرّف وهذه العقوبة تنم عن أنّ صاحبها يمتلك نفسا صغيرة يخالجها خوف فوت الفرصة فيلجأ إلى معاقبة أعدائه بهذه الصورة البشعة التي ليس فيها أي جانب من جوانب الرحمة التي كتبها اللّه علينا في كل شيء حتى في ذبح الحيوان التي ينصّ الفقهاء في فتاواهم على ألاّ يذبح أمام أبويه، وأن يحدّ الذابح الشفرة(4). وللغربيّين علينا في هذا الباب مؤاخذة هي أنّ ذبح الحيوان يؤلمه، ولذا فإنّهم يصعقونه كهربائيا. وهذا أمر يثير العجب والاستغراب؛ إذ أنّ قتل الشعوب عندهم أمر عادي أمّا ذبح الحيوان فيعدّ جريمة.

على أية حال فإنّ اللّه تعالى كتب علينا الرحمة بغيرنا؛ فإذا كان هناك أعداء فيمكن للحاكم أن يخلّدهم في السجن مثلاً، أمّا أن يضع رأسه في جراب مليء بالنورة ويخنقه، أو يضع الوسائد على وجوههم حتى يموتوا خنقا فهذا ممّا ليس فيه أدنى جنبة من الرحمة التي أوجبها اللّه علينا. وهذا الفعل كما قلنا ينمّ بشكل صارخ عن نفسية صغيرة وضعيفة.

يتبع…

______________

(1) مصباح المتهجّد: 195.

(2) النساء: 147.

(3) تاريخ الطبري 6: 37، البداية والنهاية 10: 36، 43، وفيات الأعيان 4: 187، أخبار الدولة العباسية: 394 – 391.

(4) المسائل المنتخبة ( السيد السيستاني ): 458، المبسوط ( السرخسي ) 11: 226 – 227، 12: 5، بدائع الصنائع 5: 60.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة