كشكول الوائلي _ 197

img

موقفه عليه السلام من محمّد بن اُسامة بن زيد

على أية حال إن اُسامة بن زيد هذا ترك ولداً له هو محمد، ولم يكن يختلف عن منهج أبيه في شيء، وحينما حضرته الوفاة قال الإمام السجاد عليه السلام لأصحابه: «قوموا بنا لعيادة محمد». فلمّا دخل عليه سمعه يقول: وا غمّاه. قال: «ما غمّك؟». قال: دَيني. قال: «كم هو؟». قال: ستون ألفا. قال الإمام عليه السلام : «هي عليَّ». وكان عليه السلام قد باع ضيعة كانت عنده، فلم يقم من مجلسه حتى قضى عنه دَينه(1).

فانظر إلى هذا اللون من النبل من رجل لرجل عاش ومات على بغضه وبغض آبائه.. عاش منحرفا عن خطّه الذي هو خطّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله. فالإمام عليه السلام بهذا اللون من التعامل مع الآخرين يريد أن يعلمنا كيف ننتصر على نفوسنا، وأن يعطينا درسا في تغليب خلق الإسلام على رغبات النفس وشهواتها ومطالبها، وعلى الهوى الذي يسيطر على تلك النفوس. إنّ هذا العطاء أكبر عند اللّه من أن يكون صاحبه خاضعا لذاك اللون من التأثر بالنفس وأهوائها ضدّ الآخر وإن آذاه.

وهذا الخلق ليس أمراً جديدا ولا طارئا أو عارضا عند الإمام السجاد عليه السلام، بل هو خلق ورثه من جديه رسول اللّه صلى الله عليه وآله، وأمير المؤمنين عليه السلام الذي كان يمرّ على قتلى معركة الجمل ممّن خرجوا لقتاله، وهي الواقعة التي خلّفت الآلاف من القتلى، وكانت الدماء تسيل والأشلاء متناثرة، إلى أن وصل إلى طلحة ـ وكان قد قتله مروان بسهم ـ فقال: «من هذا؟». قالوا: طلحة هذا. فأقعدوه فقال: «أبا محمد، اعزز علي»، أي ليس من السهل أن أراك قتيلاً، فهذا نبل أيمّتنا عليهم السلام. وهو شعور في غاية النبل يعجز أي شعور أن يرقى إلى مستواه نبلاً ومودّة وعطفا ورقّة:

 أَ أَبا الحُسينِ وتِلكَ أروعُ كنيةٍ *** وكِلاكُما بالرَّائعات قَمِينُ

 لكَ في خَيال الدَّهرِ أيُّ مَلامحٍ *** تَروي السَّنا ويُتَرجِمُ النَّسرينُ

 في الصبح أنت المُستَحِمُّ منَ اللَّظى *** واللَّيل في المحرابِ أنتَ أنينُ

 تكسو وأنتَ قطيفةٌ مَرقوعةٌ *** وتَموتُ من جوعٍ وأنت بَطينُ

 ما عدت ألحو عاشقيك بما أتَوا *** وصفاتُك الغَرَّاءُ حورٌ عينُ

 آلاؤك البيضاءُ طوَّقَتِ الدُّنا *** فلها على ذِمَمِ الزَّمانِ ديونُ

 فبحيثُ تَحتَشِدُ الورودُ فَرَاشَةٌ *** وبحيثُ ليلى يوجدُ المجنونُ(2)

فحقّا إنّه ذو خلق كريم ولون عجيب من الأدب السامي، وكذلك كان الإمام السجاد عليه السلام في مواقف الانتصار للحق على النفس.

الصحيفة السجّاديّة محاولة توازن وانتصار على النفس

اعتاد الناس في تلك الأيام وسيّما في الفترة التي عاشها الإمام السجاد عليه السلام أن يعاملوا الموالىِ معاملة مزرية، قد كانوا يعدّونهم في مستوىً أدنى بكثير من المستوى الذي يرونه لأنفسهم. ففي عصر السجاد عليه السلام كثرت الفتوحات وكثر معها احضار الموالي الذين لم يكونوا يراعونهم ويعاملونهم كما أمر اللّه تعالى، أو كما هو الخلق الإسلامي المطلوب في هذا المجال. ومن هنا نشأت الحركات الشعوبية أو بذورها على نحو الدقّة. وكان من مظاهر الفتوحات تلك أن جرت الأموال بأيدي الناس؛ مما حوّلهم إلى حياة الترف واللهو. وقد عالج الإمام عليه السلام هذه الظاهرة بالأدعية، فكانت صحيفته الشريفة محاولة لإيجاد حالة من التوازن بين الترف المادّي في جانب، وفراغ النفس وحاجتها إلى الدعاء وإغناء الروح في جانب آخر.

يتبع…

_______________

(1) مناقب آل أبي طالب 3: 221، بحار الأنوار 44: 189، وفيهما أنها جرت بين الإمام الحسين عليه السلام، وبين اُسامة أبيه.

(2) ديوان المحاضر: 19.

 

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة