كشكول الوائلي _ 173

img

النظم في الآية

وعليه فإنّ الفقهاء يستفيدون من هذه الآية لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ أنّ غير المؤمن ربما كان في صلبه نطفة يمكن أن يخرج منها مسلم. والمقصود من رَحْمَتِهِ هنا: الإسلام؛ لأنّه موجِب لها. وهذا هو داعي منع المسلمين من وصول البيت الحرام تلك السنة، وفعلاً خرج من أصلاب بعض هؤلاء اُناس مؤمنون. وهذه القاعدة عامة وليست مختصة بأهل مكة وحدهم، فعبداللّه بن اُبي كان رأس المنافقين، لكن ابنه رحمه الله وصل إلى درجة من الإيمان أن طلب من النبي صلى الله عليه وآله أن يتولّى ضرب عنق أبيه حينما قال: واللّه لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ (1). وكان حينما سمع بكلامه هذا قد وقف له بباب الدار في المدينة عندما رجع وقال له: والله لا تدخل البيت حتى يرضى عنك رسول اللّه صلى الله عليه وآله، وحتى تعرف من هو الأعزّ ومن هو الأذلّ.

ثم جاء فدخل على النبي صلى الله عليه وآله وقال له: روحي لك الفداء يا رسول الله، لقد سمعت ما قال أبي، وعلمت أنه قد آلمك به، فإن كنت تريد قتله، فائذن لي بأن أتولّى أنا ذلك. فقال له صلى الله عليه وآله: « لماذا؟ ». قال: لأمرين:

الأوّل: أن تعلم أننا لأي أمر نقتل الآباء والأبناء.

والثاني: أني أخشى أن تدركني حميّة الجاهليّة، فأقتل قاتل أبي لعلّي لا أصبر على رؤيته إذا رأيته، فأرتدّ عن الإسلام(2).

فعفا عنه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله إكراما له.

وهذه المسألة ليست سهلة حتى إنّ بعض الفقهاء في مسألة القصاص وولي الدم يرى أنّ الدولة هي التي يجب أن تقتصّ من القاتل وتنتصف لولي الدم وتأخذ بثأره؛ لأنّ ولي الدم إذا باشر ذلك بنفسه فإنّ المشكلة تبقى قائمة، والأحقاد تظلّ متوارثة؛ ولذا كان الأولى أن تتولّى الدولة نفسها تنفيذ القصاص وإن كان بعض الفقهاء يرى أنّ ولي الدم هو الذي يجب أن يتولّى التنفيذ(3).

المهمّ أنّ قسما من الفقهاء يميلون إلى الرأي الأوّل، وهو أن يتولّى الحاكم العادل المسلم تنفيذ الحكم ولا يترك ذلك إلى أحد كيلا يدع للأحقاد والضغائن أن تتوالد وتستمرّ في الأجيال. فهذا الرأي قائم على أساس امتصاص هذه الأحقاد من نفوس ابناء الطرفين، وعدم استمرار ذلك فيهم وفي أبنائهم وأعقابهم؛ فالقاتل سيظل مصدرا للألم ومبعثا له في نفوس ذوي المقتول، وهكذا تستمرّ السلسلة.

يقول المنهال: ذهبت للحج وجعلت طريقي على المدينة، فجئت أزور الإمام زين‏العابدين عليه السلام ، ولما دخلت عليه قال: «يا منهال، ما صنع حرملة؟ ». فالإمام السجاد عليه السلام ابن أميرالمؤمنين عليه السلام الذي كان يمرّ على القتلى والجثث ويترفّع عن أن يتأوّه أو أن يقول شيئا غير ما يرضي اللّه تعالى، وهو ابن الحسين عليه السلام الذي كان يبكي لأجل أنّ أعداءه وقاتليه سيدخلون النار بسببه، لكنه عليه السلام مع ذلك قد أحدث مصرع عبد اللّه الرضيع الذي قتل بسهم لحرملة هذا لوعة في نفسه الكريمة، وخلّف منبعا للألم كبيرا في قلبه الشريف؛ لأنّه رأى المشهد بعينه حيث رجع أبوه السبط عليه السلام حاملاً الرضيع على يديه وهو يرفرف كالطير المذبوح. وحينما امتلأت يده من دمه رمى بها إلى السماء وقال: « اللهم لا يكن أهون عليك من فصيل ناقة صالح »(4). ثم عاد به إلى اُمّه قائلاً: « رباب خذي إليك ولدك مذبوحا »:

ولو تراه حاملاً طفله *** رأيت بدرا يحمل الفرقدا

مُخضّبا من فيض أوداجه *** ألبسه سهم الردى مجسدا(5)

يتبع…

_________________

(1) المنافقون: 8.

(2) مجمع البيان 10: 373 ـ 375.

(3) حول هذا المبحث انظر فقه السنّة 2: 534.

(4) لم نعثر عليه عند مصرع الطفل الرضيع، لكن ورد هذا الدعاء عند مصرعه عليه السلام حيث إنه عليه السلام جعل يأخذ الدم من نحره فيرميه إلى السماء، ولا يرجع منه شيء. مناقب آل أبي طالب 3: 257.

(5) المجسد: الثوب الملامس للجسد، يريد: أن السهم ألبسه ثوبا من دم. انظر المعجم الوسيط: 122 ـ جسد.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة