كشكول الوائلي _ 163

img

من يحمل الكتاب ولا يعمل به

إن الهدف من التمثيل هو تقريب المعنى لذهن السامع، فالمسألة إذا كان فيها خفاء يضرب لها مثل محسوس حتى تقرّب إلى ذهن السامع. فوظيفة المثل تبيانية، ومن الأمثلة التي جاء بها القرآن الكريم قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمَا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ(1)، فإنه يريد أن يبيّن أن هؤلاء الذين يجمعون أموالهم من السحت والحرام هي أموال أشبه شيء بالنبات اليابس الذي يقع عليه المطر ويحطمه، وتأتي الريح القوية فتأخذه وترميه في الفضاء، فيتبدّد يمينا وشمالاً. فالثروة التي يكون مصدرها الحرام فإنّ مصيرها التبدّد. فالله تعالى يضرب لنا مثلاً حسيا ليقرّبه إلى أذهان الناس.

فالآية الكريمة موضوع المقام نزلت في اليهود الذين حملوا التوراة، أي كلّفوا بحملها، فحمّل الشيء: كلّف به. فاللّه‏ تعالى حينما حمّلهم التوراة كلّفهم أن يعملوا بمضمونها، فقال لهم: إن التوراة هي دستور الحياة، فيجب عليكم أن تطبّقوا المفاهيم الواردة فيها على ساحة الواقع، فتطبّقوا الحدود والوصايا والنظم التي احتوتها.

فلمّا نزلت التوراة وقرأها الأحبار، رأوا فيها أشياء لا تروقهم، فمثلاً جاء فيها تبشير بالنبي محمد صلى الله عليه وآله، وليس من مصلحتهم أن يدعوا لنبوّته، بل إن عندهم مؤسسات قائمة على اليهودية، تدرّ عليهم أموالاً، وهي مرتبطة بالدولة. وعليه فإنّ مصالحهم ستذهب إذا أخبروا أتباعهم بالأحكام التي تلتقي مع الإسلام، وهم يريدون كيانا متميّزا. وهنا جاء القرآن الكريم مخبرا عنهم: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارا.

إن هذه المسألة لا تخص اليهود فقط، فليسوا هم وحدهم من لم يحملوا مضامين كتابهم، فهناك الكثير ممّن نزل عليهم القرآن ولم يعملوا به، وكأن القرآن نزل للقراءة صباحا فقط أو لتحلّى به الأعناق للبركة. إن القرآن فيه مضامين عالية علينا أن نطبّقها، فنحن حُمّلنا القرآن للتكليف، وحكمنا عندما نترك القرآن كحكم اليهود الذين لم يعملوا بالتوراة، وسيلحقنا الذمّ. فعلينا أن نعرف مضامين القرآن ولا نقع ضمن دائرة قوله تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكَا(2). والعلاقة بين الإعراض عن ذكر اللّه‏ وبين ضيق المعيشة أن تطبيق مبادئ غير مبادئ القرآن كالرأسمالية والاشتراكية وتطبيق المذاهب ومجموعة النظم الاقتصادية الدخيلة ـ وكلها لا تحلّ أي مشكلة ـ هو الذي يؤدّى إلى حصول هذا الضنك في المعيشة. فلماذا لا نجرب الاقتصاد الإسلامي وننزله إلى الساحة، فنعالج نظريات التوزيع، ونظريات الإنتاج، ونظريات البيع والتبادل، على ضوء النظام الإسلامي، ولنرَ حياتنا هل ستصبح مرفّهة أم لا؟

فنحن نجد الآن في أرقى الدول اُناسا لا يملكون مأوى أو طعاما، فنجد إنسانا يفترش الأرض ويلتحف السماء، ونجد الجوع منتشرا، ونسمع بالمشاكل الاقتصادية تنتشر في كل مكان في حين أنهم ينفقون الأموال لأجل إطعام كلب وتنظيفه. يحدّثنا التاريخ أن الناس في أيام الخليفة عمر بن عبد العزيز كانوا مكتفين اقتصاديا، فكانت السلطات تأخذ الزكاة من الأغنياء فلا تعثر على مستحقّ لها في بعض المناطق لعدم احتياجهم لذلك.

فهل قمنا بدراسة العلاقة بين الإعراض عن ذكر اللّه‏ تعالى وبين ضنك العيش في الآية: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكَا دراسة جدية وواقعية؟ بل أكثر من هذا نجد أن جامعاتنا لا تدرّس الاقتصاد حسب رأي الإمام الصادق عليه السلام أو رأي أبي حنيفة أو مالك، فلماذا لا نأخذ رأي محمد بن عبد اللّه‏ صلى الله عليه وآله، وهو رأي الإسلام؟ إن الواجب علينا أن ننظر إلى ما كتبه فقهاء المسلمين حول المسائل التي لها علاقة بالاقتصاد، وأن نضع لنا منهجا في دراستها.

إذن يوجد عندنا اُناس يحملون القرآن ولا يعرفون مضمونه، بل يوجد اُناس لا يعرفون ماذا يوجد في القرآن، كالبعير يحمل الأثقال ولا يعرف ماهي، فهو يحمل القرآن ولا يعرف نسبته إلى المذاهب الاجتماعية الاُخرى. إن في القرآن أكثر من ( 70 ) آية نزلت في حقّ علي بن أبي طالب عليه السلام ، وهذا الأمر تذكره حتى المذاهب الإسلامية الاُخرى(3)، ومع كل هذا نجد من يقول: إن علي بن أبي طالب بدري، وحاطب بن أبي بلتعة بدري أيضا، أي كلاهما سواء. فصحيح أنهما بدريان، لكن من يقول: إنهما سواء؟ إن من يقول: « سلوني سلوني، فوالله لا تسألونني عن آية من كتاب الله إلاّ حدثتكم عنها بمن نزلت بليل أو بنهار، أو في مقام أو في سهل أو في جبل، وفيمن نزلت؛ أفي مؤمن أو منافق »(4)، هل يمكن أن نضعه في مصافّ من لا يعرف أبسط الأحكام؟

وصحيح أن حاطبا له صحبة لكنه ارتكب خطأ كبيرا حينما أراد النبي صلى الله عليه وآله أن يفتح مكّة، فقد كانت عائلة حاطب بن أبي بلتعة في مكّة، فعرف أن النبي صلى الله عليه وآله سيفتح مكّة فأراد أن يفعل جميلاً لقريش، فيخبرهم أن النبي صلى الله عليه وآله استعدّ لغزوهم؛ حتى يحفظوا له الجميل، ولا يؤذوا عائلته.

فكتب رسالة وأعطاها لسارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هشام، وكتب فيها: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكّة، إن رسول الله يريدكم، فخذوا حذركم.

فأخذت الرسالة ووضعتها في عقيصتها (شعر رأسها) وخرجت، فهبط جبرائيل عليه السلام ، وأخبر النبي صلى الله عليه وآله بما فعل حاطب، فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله لها من يأتي بالكتاب منها، فأخبرتهم بأن لا كتاب معها، وحلفت على ذلك. فعادوا إلى النبي صلى الله عليه وآله فأخبروه أن ليس معها كتاب، وأنها قد حلفت على ذلك، فأرسل إليها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وعمارا والمقداد بن الأسود وأبا مرثد، وعمر والزبير وطلحة، وكانوا كلّهم فرسانا، وقال لهم: « انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ(5)، فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى المشركين، فخذوه منها ».

فخرجوا حتى أدركوها في ذلك المكان الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله، فقالوا لها: أين الكتاب؟ فحلفت بالله ما معها من كتاب، فنحّوها وفتشوا متاعها، فلم يجدوا معها كتابا، فهمّوا بالرجوع، فقال الإمام علي عليه السلام : « والله ما كَذبنا، ولا كُذبنا ». ثم سلّ سيفه في وجهها وقال لها: « أخرجي الكتاب وإلاّ والله لأضربن عنقك ». فلما رأت الجدّ عند أمير المؤمنين عليه السلام ، أخرجته من ذوءابتها وأعطته إيّاه، فرجعوا به إلى رسول اللّه صلى الله عليه وآله.

فأرسل صلى الله عليه وآله إلى حاطب فأتاه، فقال له: « هل تعرف الكتاب؟ ». قال: نعم. قال: « فما حملك على ما صنعت؟ ». قال: يا رسول اللّه، والله ما كفرت منذ أسلمت، ولا غششتك منذ نصحت لك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلاّ وله بمكّة من يمنعه، وهم عشيرته، وكنت عريرا فيهم ـ أي غريبا(6) ـ وكان أهلي بين ظهرانيهم، فخشيت على أهلي، فأردت أن أتّخذ عندهم يدا، وقد علمت أن الله ينزل بهم بأسه، وأن كتابي لا يغني عنهم شيئا. فصدّقه رسول الله صلى الله عليه وآله وعذره، وقال له: « قم، فقد وكلتك إلى ظاهر إسلامك »(7).

فهذا يخاف من أن تتعرّض عائلته إلى سوء، فأين هذا من الذي يصبح عليه الصباح وقد شهر سيفه بوجه الكفر وأخذ يضربهم يمينا وشمالاً حينما بات في فراش رسول اللّه‏؟ وهو يعرف ما الذي ستتعرّض له عائلته، لقد تعرضت عائلة علي بن أبي طالب عليه السلام للإبادة، فكان الاُمويون يواجهون قبر النبي صلى الله عليه وآله ويقولون: يا محمّد، ثار بثارات بدر.. بدر التي قتل فيها الإمام علي عليه السلام ( 35 ) بسيفه، والجيش الإسلامي والملائكة قتلوا ( 35 )، فهل كلاهما سواء؟

يجب أن يكون عندنا مقاييس علمية وموضوعيّة، ونحن بهذا الشكل لا نعمل بمضامين القرآن. كان مروان بن أبي حفصة يقول:

زوامل للأسفار لا علم عندهم *** بجيّدها إلا كعلم الأباعرِ

لعمرك ما يدري المطي إذا غدا *** بأسفاره إذ راح ما في الغرائرِ(8)

فالبعير لا يدري بالغرائر، لكن أنت يا مروان إذ تنتقد هؤلاء، هل أنت أفضل منهم؟ وهل أنت تحسن أن تحمل القرآن وتعمل بمضمونه؟ إنك تعرف ظلم العباسيّين وجورهم، فكيف تخاطب الرشيد بقولك:

خليفةَ اللّه‏ إنَّ الجودَ أوديةٌ *** أَحلَّك اللهُ منها حيث تجتمعُ

إن أخلفَ الغيثُ لم تخلف مخائلُه *** أو ضاق شيءٌ ذكرناه فيتسعُ

من لم يكن ببني العباس مُعتصما *** فليس بالصلوات الخمس ينتفعُ(9)

فأين علمك الذي حملته بصدرك؟ إن هذه هي مصيبتنا، وهذه ظاهرة عامة، يرى أحدنا القذى في عين غيره ولا يرى الجذعة في عينه.

فالمسألة لا تقتصر على التوراة، بل تشمل حتى حامل القرآن، فهو معرّض لمؤاخذة عند عدم العمل به، فالقرآن إمامنا ومرشدنا ومصدر حضارتنا، فعلينا أن نأخذ من مضامين القرآن الذي ملأ كل أركان الحياة.

فالقرآن حياة المجتمع، وعندما نزل فإنه نزل على اُناس أموات؛ فلا علم ولا أخلاق ولا استقامة، فبعثهم وأحياهم من جديد. فعلينا الآن أن نتعلم ونحيي المجتمع بأن نأخذ من تعاليمه وآدابه وأخلاقه.

يتبع…

__________________________

(1) الكهف: 45.

(2) طه: 124.

(3) قال ابن عباس رضي الله عنه: « نزل في علي ثلاثمئة آية ». الصواعق المحرقة: 125، كفاية الطالب: 231، تاريخ الخلفاء ( السيوطي ): 172، نور الأبصار: 73، إسعاف الراغبين: 160.

(4) سعد السعود: 109، وهو عليه السلام القائل: « أيها الناس، سلوني قبل أن تفقدوني، فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض ». نهج البلاغة / الكلام: 189.

(5) خاخ: موضع بين الحرمين، ويقال له روضة خاخ، بقرب حمراء الأسد من المدينة. وذكر في أحماء المدينة، والأحماء: جمع حمي، وهي التي حماها النبي صلى الله عليه وآله والخلفاء بعده. معجم البلدان 2: 335 ـ خاخ.

(6) لسان العرب 2: 744 ـ عرر.

(7) مجمع البيان 9: 445، الجامع لأحكام القرآن 18: 50.

(8) مجمع البيان 10: 8، تفسير الثعلبي 9: 307، الجامع لأحكام القرآن 18: 95.

(9) لم نعثر عليها لمروان، بل لمنصور النمري. انظر تاريخ بغداد 4: 272، 13: 69.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة