كشكول الوائلي _ 158

img

ضريبة النعم

إننا يجب أن نعرف أن لكل نعمة ضريبة، فالعقل عليه ضريبة هي المشورة الحسنة، واللسان عليه ضريبة هي الإصلاح بين الناس وذكر اللّه‏ تعالى، والعين كذلك. واللّه‏ تعالى حينما أعطى العينين للإنسان جعل باستطاعة غيره أن يدرس سلوكه من عينيه، فالعين تكشف عن مشاعر صاحبها وأحاسيسه، يقول الشاعر:

تأمل مساقط لحظ المريب *** فإنّ العيون وجوه القلوب(1)

والعين تبصر له ما يريد، ويقرأ بها ويهتدي إلى حوائجه. لكن ضريبتها هي أن تسهر في طاعة اللّه‏ وخلافه، هو عدم الشكر له تعالى. وهذا مثله مثل المال الذي يمكن أن يصرف في الحرام أو يصرف في الحلال، فالعين يمكن أن نقرأ بها القرآن ونسهر الليل لأداء فريضة أو صلاة ركعة، وفي الوقت نفسه يجبّ أن نعفّها عن محارم اللّه‏، فلا نسلّطها على عورات الناس، وعلى ما لم يحلّه اللّه‏ لنا، وإلاّ كانت جارحة حرام؛ لأنها عضو سيشهد على صاحبه يوم يلقى اللّه‏ تعالى، فإن الأعضاء تنطق يوم القيامة(2).

نوع الجزاء عند المصيبة

وهذه المسألة يبحثها الفلاسفة وعلماء الكلام، فيقولون: إذا ابتلى اللّه‏ العبد بشيء، فهل يعطيه عوضا عن هذا الابتلاء أم لا؟ يقولون: نعم، إنه يجب تعويضه، لكن يبرز هنا تساؤل آخر هو: ما هو نوع هذا العوض؟ هل هو تعويض بالمثل، وهذا لا يجوز؛ لأنه عبث يُنزّه اللّه‏ تعالى عنه، فلا معنى لأن يؤخذ منه شيء ويعطى بعد ذلك بقدره؛ فلا ثمرة في البين، او أنه يعوّض بالأقل، وهذا لا يجوز كذلك؛ لأنه ظلم، وهو تعالى عادل، أم أنه يعوّض بالأفضل؟

وهنا يجيبون بأنه لابد أن يكون التعويض بما هو أكبر؛ حتى يتحقّق العدل والحكمة الإلهيّان. فاللّه‏ تعالى لا يمكن أن يسلب من الإنسان نعمة دون أن يعطيه مقابلها شيئا، وهذا الشيء أكبر من النعمة المسلوبة(3).

فإذا سلب اللّه‏ أحدا بصره عوّضه عنه بالبصيرة، يقول حبر الاُمة عبد اللّه‏ بن عباس، وكان قد ابتلي بفقد البصر:

إن يأخذ اللّه‏ من عيني نورهما *** ففي فؤادي وقلبي منهما نورُ(4)

وحدث يوما أن ابن الزبير صعد المنبر وأراد أن ينال منه فقال: إن هاهنا رجلاً أعمى اللّه‏ قلبه كما أعمى عينيه. فقال له ابن عباس: يابن الزبير: « أمّا عينيّ فقد أخذ اللّه‏ نورهما، ولكن عوّضني اليقين في قلبي والنور في بصيرتي… »(35).

فلابدّ أن يعوّض اللّه‏ عبده بمقتضى عدله ولطفه. مع أنه تعالى إذا أخذ من عبده شيئا فإنما يأخذه لمصلحة، وهو مع هذا في الوقت نفسه لايترك تعويضه.

لكن نعمة البصر من أهم النعم التي أنعم اللّه‏ بها على عباده، ولذلك ورد في الدعاء الشريف: « اللهم متّعني بسمعي وبصري، واجعلهما الوارث مني »(6). يروي البزاز في مسنده عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: « يُخرج لابن آدم يوم القيامة ثلاثة دواوين: ديوان فيه العمل الصالح، وديوان فيه ذنوبه، وديوان فيه النعم من الله تعالى عليه، فيقول الله تعالى لأصغر نعمه في ديوان النعم: خذي ثمنك من عمله الصالح. فتستوعب عمله الصالح كلّه، ثم تنحّى وتقول: وعزّتك ما استوفيت. وتبقى الذنوب والنعم، فإذا أراد الله أن يرحمه قال: يا عبدي قد ضاعفت لك حسناتك، وتجاوزت لك عن سيئاتك، ووهبت لك نعمي »(7).

ولو أن الإنسان يملك أكبر ثروة، ويعطيها لأضخم المستشفيات وأحدثها، فهل يمكن أن تعوّض عينا له تالفة؟ ولو قدر اللّه‏ سبحانه وتعالى لأجل الإنسان أن ينتهي، فهل تستطيع ثروته أو هذه المستشفيات أن تمدّ في عمره لحظة واحدة؟ فكيف نقابل نعم اللّه‏ تعالى إذن؟ إنّ أكبر الأعمال عندنا لاتقابل أصغر نعمه كما في الحديث. فالبارئ جلّ وعلا يريد أن يذكّرنا بهذه النعم فيقول: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ.

يتبع…

____________________

(1) شرح نهج البلاغة 18: 279.

(2) قال تعالى: « الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ » يس: 65.

(3) هذا مع أن هذه النعم نعم ابتدأ اللّه‏ تعالى بها المكلّف، وليست نعم استدامة.

(4) سير أعلام النبلاء 3: 358، اختيار معرفة الرجال 1: 272 / 103.

(5) أنساب الأشراف 4: 55 ـ 57، شرح نهج البلاغة 20: 129 ـ 131، الدرجات الرفيعة: 132، 134.

(6) مستدرك وسائل الشيعة 5: 91 / 5416، الجامع الصحيح ( سنن الترمذي ) 5: 242 / 3680.

(7) المصدر غير متوفّر لدينا، انظر المصنّف (ابن أبي شيبة) 8: 161، العهود المحمدية: 900.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة