كشكول الوائلي _ 153

img

المبحث الثاني: مناسبة الحكم والموضوع

تقول الآية الكريمة: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمؤمنينَ، ولدينا هنا ما يسمى: الحكم والموضوع، فلكلّ موضوع حكم يرتبط به. وهذا الارتباط تارة يكون على أساس أن الموضوع صفة له، واُخرى لا يكون كذلك. ولتقريب المعنى سنعوم في أجواء هذا المقطع من الآية الكريمة، فالرضا في قوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمؤمنينَ حكم موضوعه المؤمنون. والمؤمن هو عبارة عن إنسان مضافا إليه الإيمان. وهذا مثله مثل النجّار الذي هو عبارة عن إنسان مضافا إليه مهنة النجارة أومهارة النجارة.

وهنا نلاحظ أن الرجل موصوف، وأن الإيمان صفة زائدة عنه. وعليه فإن اللّه‏ تعالى عندما يقول: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمؤمنينَ أي رضي عمّن بايعك من الصحابة المتّصفين بصفة الإيمان والاعتقاد، والتفاني في طاعة اللّه‏. وهذا اللون من الصحابة ـ بلا شك ـ منارة هدى لنا، وطريقنا إلى القرآن والسنّة النبوية الشريفة، وهم مجدنا، ونحن بهذا اللحاظ نقدّسهم ونحترمهم.

لكن عندما يُنزل القرآن سورة كاملة باسم سورة (المنافقون)، وعندما ينزل في القرآن: وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ(1)، كما يعطي صفات متعدّدة في القرآن تحدّد جماعة خاصّة، منها أنهم لم يتّصفوا بصفات الصحبة ولو أنهم عاصروا النبي الكريم صلى الله عليه وآله، فكيف يمكن أن يكون الموقف من الصحبة والصحابة؟

إننا نقرأ في (صحيح البخاري)(2) و(صحيح مسلم)(3) والصحاح الاُخرى(4) أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله يقول: «ألا وإنه يجاء برجال من اُمّتي، فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا ربّ، اُصيحابي. فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول: كما قال العبد الصالح: وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ(5). فيقال: إن هوءلاء لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم».

وهذا كما يرى القارئليس من كتب الشيعة، بل هو من كتب السنة، ومن أراد المزيد فليرجع فقط إلى روايات الحوض في الصحيحين، وأنا على استعداد لأن أعطيه عشرات المصادر حول هذا الموضوع. فهو موضوع حسّاس جدا، لكني لا اُريد أن أضع يدي على جراحنا فتؤلمنا، غير أني آمل أن يكون المسلم واعيا، وأن نفكّر جميعا بعقولنا لا بآذاننا.

إن القرآن ينزل آيات فيمن اتّصف بصفة الصحبة، ومفهوم الصحبة عند إخواننا السنّة ينطبق على كل من يرى النبي صلى الله عليه وآله ولو لساعة واحدة، فمن رأى النبي الأكرم صلى الله عليه وآله كذلك أصبح ممّن لا يمكن أن يتطرّق إليه الريب أو النقد. وهذا كلام بعيد عن دائرة المسؤوليّة، ولا يمكن أن نعيره اهتماما؛ لأنه ليس كلام من يحترم عقله. فاللّه‏ تعالى أعطانا المقاييس وأمرنا أن نتّبعها. والنبي صلى الله عليه وآله نفسه أشار إلى أن الناس فيهم الصالح وفيهم الطالح، وليست هناك ميزة استثنائيّة اّلاّ للمعصوم، أمّا غيره فيمكن أن يخطئ ويمكن أن يصيب. وكل ما في الأمر أننا إذا مررنا بأحدهم فالواجب يقتضي حينئذٍ أن نقيّمه أولاً، لا أن نشتمه أو نسبّه حتى يتبين أنه أهل لذلك.

والتقييم الذي نعنيه هنا هو التقييم الموضوعي، وهو أن يُذكر للصحابي ما له وما عليه من الفضائل والإنجازات والمقام المحترم، أو الأخطاء التي ارتكبها والانحراف الذي أصابه، أمّا الشتم فلا، فهو غير وارد في قاموس النقد الموضوعي. وليس الشتم من شأننا، والذي يشتم غيرنا لا نحن، لأن السباب والشتم يؤذيان مشاعر كلّ مسلم. ونحن نتقرب إلى اللّه‏ بحبّ الصحابي الذي تنطبق عليه صفات الصحبة، وهذه كتبنا بين أيدي الجميع. أما إذا قيّمنا فإننا إذا رأينا في البين انحرافا، فحتما سنقول: إن هناك انحرافا يترتب عليه جزاء.

وهذا ليس بعيدا عن القرآن الكريم؛ ذلك أنه مدح أقواما بقوله: وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يُوءْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلاَ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمْ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(6) وذمّ آخرين بقوله: الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرا وَنِفَاقَا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(7) وهذا هو منهج القرآن: فـ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ(8)، و لا يَسْتَوِي أصْحَابُ النَّارِ وَأصْحَابُ الجَنَّةِ(9).

وهذه هي المقاييس التي يجب أن نتّبعها، أمّا الشتم فقد جاء من غيرنا، ومن هذا مثلاً ما يرويه المؤرّخون من أنه كان في أيام هشام بن عبد الملك رجل يدعى جنيد بن عبد الرحمن من أهل حرّان، وهو من الرجال المحترمين المرموقين، والرؤساء المعروفين، وكان الاُمويّون يحترمونه، وكانت له حصّة من العطاء من بيت المال يأخذها كلّ سنة. يروي جنيد نفسه فيقول: كنت في طريقي إلى الشام يوما لأستلم عطائي، وكان دخولي يوم جمعة، فدخلت إلى مسجد احتشد فيه الناس ليصلّوا الجمعة، فلمّا فرغت من الصلاة صعد الخطيب المنبر، ووعظ فاتّعظنا، وذكّر فتذكّرنا، ونصح فانتصحنا. ثم لمّا أراد الختام قال: دعونا نختم صلاتنا وموعظتنا بشتم أبي تراب.

فراحوا يشتمون عليا شتما ذريعا، فلما فرغوا سألت أحدهم: من أبو تراب هذا؟ فقال: إنه علي بن أبي طالب. قلت: زوج فاطمة بنت رسول اللّه‏ صلى الله عليه وآله؟ قال: نعم. قلت: أبو الحسن والحسين عليهما السلام؟ قال: نعم. قلت: أول القوم إسلاما؟ قال: نعم. قلت: أهو صاحب السيف المقاتل الذي ذبّ عن الإسلام، ثم استشهد في سبيل مبدئه؟ قال: نعم. قلت: فما المبرّر لشتمه إذن؟

ثم قمت إلى الخطيب فأمسكته من وفرة شعره، وجعلت أضرب برأسه الجدار حتى أدميته، فصاح: خذوني إلى الخليفة. فأخذنا الجلاوزة، فلما وقع بصر هشام عليّ قال: مرحبا بك أبا عبد الرحمن، متى قدمت؟ قلت: أمس. قال: ما الخبر؟ فأخبرته الخبر وقلت: لو أنني سمعت من يشتم صهرك وابن عمّك وأبا سبطيك لما تركته، وهذا يشتم صهر رسول اللّه‏ صلى الله عليه وآله. فقال هشام: صدقت يا أبا عبد الرحمن، وعليك ألاّ تتأخّر، خذ عطاءك واذهب إلى أهلك.

لقد أحسّ هشام أن هذا الرجل يشكّل عنصر خطر عليه، وهذا هو شأن الكثير من الدول الآن، إذ أنها تعتبر الإنسان الواعي خطرا عليها.

وقد جعل الاُمويّون هذا الأمر سنّة شاب الصغير وهرم الكبير عليها، حتى إنها وصلت إلى الصلاة، وكان معاوية يقنت في الصلاة ويشتم أمير المؤمنين عليه السلام ، ويتقرّب إليه البعض فيقول: وأزيدكم حسنا وحسينا، ثم يأتي عمرو بن العاص فيقول: وأزيدكم اُمّهما فاطمة. والمسألة معروفة، فالأمد الذي شتم فيه علي عليه السلام على المنبر ثمانون عاما. بل إن البعض كان يشتمه وهو في حياته، وكان بوسع الإمام عليه السلام أن ينتقم منه، لكنه على العكس من ذلك كان لا يبخسه في عطائه. يقول أحد الاُدباء:

سيّدي كلّما تلبّد اُفق *** وتمادى بعسفه الديجورُ

وتمادت صحائف خطّ منها *** قلم الحقد والهوى والزورُ

لاح بالاُفق من رؤاك جبين *** بعض أوصافه السنا والعبيرُ

الجبين الذي أحاطوه شتما *** وإلى الآن بالجيوب الكثيرُ

فحباهم طيبا وعفوا كما يفـ *** ـعل إن زجّ في اللهيب البخورُ

وتمهل أبا تراب فدون الـ *** ـشتم من حولك الفضائل سورُ

إن أشادت بك السما وأفاضت *** أي ضير لو سبّك المسعورُ

ويقول آخر:

وما مِدحتي تُوليك فخرا وإنما *** أردّ بإطرائي عليك الطَّواريا

إذا الملأ الأعلى تحدّرَ بالثَّنا *** عليك فما شأني وشأن ثنائيا(10)

يتبع…

_______________

(1) التوبة: 101.

(2) صحيح البخاري 5: 191 ـ 192، 240 ـ 241، 7: 195، 206، 207، 208، 8: 87.

(3) صحيح مسلم 1: 150، 7: 67، 68، 8: 157.

(4) انظر: مسند أحمد 1: 384 وغيرها كثير، سنن ابن ماجة 2: 1016 / 3057، الجامع الصحيح (سنن الترمذي) 4: 38 – 39 / 2539، 5: 4 / 3215، المصنّف (ابن أبي شيبة) 7: 415 / 35، المصنّف (الصنعاني) 11: 407 / 20855.

(5) المائدة: 117.

(6) التوبة: 99.

(7) التوبة: 97، وقال: «وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمَا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» التوبة: 98.

(8) الشورى: 7.

(9) الحشر: 20.

(10) الأبيات للشيخ حميد السماوي. علي في الكتاب والسنّة والأدب 5: 149. وقد عوتب المتنبي في ترك ذكر المناقب فقال:

وتركت مدحي للوصي تعمدا *** إذ كان نورا مستطيلاً شاملا

وإذا استطال الشيء قام بذاته *** وكذا صفات الشمس تذهب باطلا

نهج الإيمان: 669.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة