كشكول الوائلي _ 152

img

عدالة الصحابة بين العقل والعاطفة

لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمؤمنينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحَا قَرِيبا(1).

مباحث الآية الكريمة

المبحث الأول: منهجنا العلمي في تقييم الصحابة

هذه الآية الكريمة فيها مضامين عدّة، وهي ترتبط بموضوع مهمّ من مواضيع الساحة الإسلاميّة، وهو موضوع يرتبط بمشاعر كل مسلم؛ لأنه يتعلّق بالواسطة بيننا وبين المصدر الثاني من مصادر التشريع، بل بين المصدرين المهمين: الكتاب والسنّة. وأعني به موضوع عدالة الصحابة، الذي يحتاج إلى كثير من التجلية؛ لكثرة ما قيل فيه ووضع من التقوّلات والادّعاءات التي لا نصيب لها من الصحة. ومن يحرص على أن ينظّف الساحة الإسلامية ويكتسح ما بها من ألغام، فعليه أن يعطي هذا الموضوع حقّه من البحث؛ ليزيل عنه الكثير من الغبار والشبهات العالقة به، والمتغلغلة في أدمغة الناس.

وقبل كل شيء لا بدّ من أن ننوّه إلى أننا لن نأنف من أن نتبرك بتراب أقدام الصحابة الطاهرين الأبرار الأوفياء الذين حملوا الكتاب والسنّة، وامتلأت قلوبهم إيمانا ورحمة(2). وإذا كان هناك تخبّط حاصل حول نِقاط معيّنة ساخنة، أو حول شراذم معيّنة، فإننا نتّبع معهم اُسلوب القرآن الكريم في تحديد مفهومي التزكية والعدالة. ومن يملك أدنى مقدار من الإدراك والسعة والاطّلاع على العلوم الإسلامية وطلب الحقيقة فإنه سيجد أن علماء الدراية عندنا وحتى كتّابنا لا يخرجون في هذا الموضوع عن إطار منهج القرآن الكريم والسنّة النبويّة الشريفة. وهذا ما نجده واضحا بيّنا في الكتب المعتبرة الموثوقة عندنا في تقييم الصحابة، وسوف نمر بهذا المعنى في هذا المبحث، وما يليه من مباحث إن شاء اللّه‏ تعالى.

في سبب نزول الآية الكريمة

نزلت هذه الآية الكريمة في واقعة الحديبية، وكانت هذه الواقعة سنة ست من الهجرة المشرّفة؛ إذ خرج النبي الأعظم صلى الله عليه وآله ومعه ( 1400 ) صحابي، فلما وصل إلى الحديبية ظنّت قريش أنه صلى الله عليه وآله خرج لقتالهم، في حين أن الأمر لم يكن كذلك، فالنبي صلى الله عليه وآله أرسل يخبرهم بأنه لم يجئ مقاتلاً، وإنما جاء معتمرا وأصحابه، وليجدّد العهد بالبيت ويعظّموه، ولينحروا الهدي عنده ويرجعوا. لكن قريشا صدّوه، وقالوا له: لا تبرح المكان الذي نزلت فيه. ثم حشدوا جيشهم، وجعلوا خالد بن الوليد قائدا عليه، ورابطوا هناك استعدادا لما يطرأ.

وتوالت بينهم الرسل، فهناك من عزّ عليه أن تُسفك الدماء، فقام بدور الوسيط لحسم الأمر، وكان أحد الوسطاء بين الطرفين عروة بن مسعود الثقفي جدّ علي الأكبر لاُمّه. وكان آنذاك لم يُسلم بعدُ، فهو قد أسلم سنة ( 9 ) ه. وكان في تلك الأيام مع قريش، لكنه كان من العقلاء الناضجين ذوي المكانة في قريش. فجاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وقال له: علام هذا الجمع؟ فبيّن له النبي صلى الله عليه وآله أنهم لم يأتوا لحرب ولا لقتال، وإنما جاؤوا زائرين لهذا البيت الحرام، ولينحروا الهدي ويرجعوا.

فعاد عروة إلى قريش وأخبرهم بقول النبي صلى الله عليه وآله، فقالوا له: ماذا رأيت هناك؟ قال: والله لقد وفدت إلى الملوك ووفدت إلى كسرى وقيصر والنجاشي، والله ما رأيت ملكا قطّ يعظّمه أصحابه كما يعظّم أصحاب محمد محمدا. ووالله إذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضّأ اقتتلوا على وضوئه، وإذا تكلّم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون إليه النظر؛ تعظيما له. وإنه قد عرض عليكم خطّة رشد فاقبلوها وأجمعوا أمركم(3).

ولأن عثمان بن عفّان كان قريبا لأبي سفيان، فقد بعث به رسولنا الأكرم صلى الله عليه وآله إلى قريش ليرى رأيهم فيما قاله لعروة، فاحتبسته قريش وانقطع خبره، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله والمسلمين أن عثمان قد قتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله حين بلغه ذلك: « لا نبرح حتى نناجز القوم ». ودعا صلى الله عليه وآله الناس إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، فنزل قوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمؤمنينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحَا قَرِيبا، فسميت «بيعة الرضوان»؛ لما حصل فيها من رضا اللّه‏ تعالى على المؤمنين، و«بيعة الشجرة »؛ لوقوعها تحت الشجرة(4).

فلما رأت قريش إصراره على هذا الأمر خضعوا له وقالوا: نصالحك على أن ترجع هذه السنة، وتعود في السنة الآتية وتدخل إلى مكّة، ولك فيها ثلاثة أيام، تسعى وتطوف وتعتمر ثم ترجع. فقال النبي صلى الله عليه وآله لأمير المؤمنين: « هلم اكتب بيننا هذا ». فأتى بورقة وكتب: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. فقالوا له: لا تكتب هذا، بل اكتب: باسمك اللهم. فقال له النبي صلى الله عليه وآله: « اكتبها كما يريدون ». ثم كتب عليه السلام : «هذا ما تعاهد عليه رسول اللّه محمد بن عبد اللّه… ». فقاطعه سهيل قائلاً: مهلاً، لو كنّا نعرف أنك رسول اللّه‏ لأطعناك ولما خرجنا لقتالك، اكتب: « محمد بن عبد اللّه ».

فطلب الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله من أمير المؤمنين عليه السلام أن يكتب ذلك فتلكّأ عليه السلام في ذلك؛ حيث إنه ( صلوات الله وسلامه عليه ) لم تطاوعه نفسه الشريفة أن يمحو صفة الرسالة عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله ويكتب اسمه فقط، يقول عليه السلام : «فقلت(5): هو والله رسول الله وإن رغم أنفك، لا والله لا أمحوها. فقال صلى الله عليه وآله لي: أما إن لك مثلها، ستأتيها وأنت مضطرّ»(6).

وفعلاً مرّ أمير المؤمنين عليه السلام بهذه التجربة نفسها، وذلك في واقعة الحكمين في صفّين، فقد أجبره عمرو بن العاص وأبو موسى الأشعري وأشباههم على‏ذلك (7). والتاريخ يحدّثنا أن معاوية قد حاول الفرار وتهيّأ له، فجاء إليه من أمسك ركابه قائلاً: إلى أين، وقد قتل عشرات الآلاف من أجلك؟ يقول معاوية: فتذكّرت عند ذاك أبيات ابن الإطنابة:

أبت لي عفّتي وأبى بلائي *** وأخذي الحمدَ بالثمن الربيحِ

وإقدامي على المكروه نفسي *** وضربي هامةَ البطل المشيحِ

وقولي كلّما جشأت وجاشت *** مكانك تحمدي أو تستريحي(8)

ثم قال معاوية لعمرو بن العاص: ما في مخبأتك؟ قال: مرهم فليرفعوا المصاحف. فلمّا رفعوها تغيّر الأمر.

فكان النبي صلى الله عليه وآله يذكّر الإمام عليه السلام في الحديبية بقوله: « أما إن لك مثلها، ستأتيها وأنت مضطرّ».

وهكذا وقّع النبي الأكرم صلى الله عليه وآله على الوثيقة، وحلّ وأصحابه من إحرامهم، ونحروا وحلقوا ورجعوا. ثم انتظروا إلى السنة القابلة، فذهبوا إلى مكّة، وبقوا فيها ثلاثة أيام، ودخلوا الكعبة وهم يهلّلون ويكبّرون. وهذا هو السبب في نزول هذه الآية.

والمهم في القصّة أن النبي صلى الله عليه وآله لما أصرّ على القتال رضخ المشركون، وطلبوا الهدنة، وقال الصحابة للنبي صلى الله عليه وآله: نبايعك على القتال والموت. وكان النبي تحت شجرة فبايعوه فنزلت الآية. فكان الناس يقولون: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله على الموت.

____________________

(1) الفتح: 18.

(2) كسلمان المحمّدي وأبي ذرّ والمقداد وحبر الاُمّة وغيرهم من أمثالهم.

(3) صحيح ابن حبّان 11: 219 ـ 222.

(4) تفسير القرآن العظيم 4: 200، صحيح ابن حبّان 11: 219 ـ 222.

(5) مخاطبا سهيل بن عمرو.

(6) انظر: مناقب آل أبي طالب 2: 365 ـ 366، سنن النسائي 5: 167 / 8576، تفسير القرآن العظيم 4: 200، صحيح ابن حبّان 11: 219 ـ 222. وقد مرّ في ج2 ص210 ـ 211 / الهامش: 2 من موسوعة محاضرات الوائلي تفسير ابن حجر رفض أمير المؤمنين عليه السلام محو كلمة رسول الله مع أمر الرسول صلى الله عليه وآله إيّاه بذلك بقوله: وكأن عليا فهم أن أمره له بذلك ليس متحتّما، فلذلك امتنع من امتثاله.

 وكذلك فسّر قول رسول الله صلى الله عليه وآله: «أما إن لك مثلها، ستأتيها وأنت مضطرّ»، بقوله: يشير صلى الله عليه وآله إلى ما وقع لعلي يوم الحكمين، فكان كذلك. فتح الباري 7: 386.

(7) انظر ذلك مفصّلاً في ج2 ص210 ـ 211 / الهامش: 2 من موسوعة محاضرات الوائلي.

(8) شرح نهج البلاغة 2: 223، 8: 59، 18: 203، تنزيل الآيات على الشواهد من الأبيات: 359، تفسير الثعلبي 4: 52.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة