كشكول الوائلي _ 149

img

فإذا نُفخ في الصُّوَر

وهو جمع صورة. وهذه القراءة فيها إشارة إلى روايات كثيرة تنصّ على أن اللّه‏ تعالى قبل أن يبعث الخلائق من القبور، يرسم لهم صورا جديدة داخل القبور. فالثابت عندنا أن المعدوم لا يعاد، أي أن الذي ينعدم لا يعاد نفسه؛ لأنه انتهى، فهذا الهيكل للإنسان إذا وضع في القبر تحوّل إلى ذرّات، فإعادته بالصورة نفسها أمر غير ممكن، أما إذا كانت الإعادة بصورة مثلها فنعم. لكن الصورة التي يبعث عليها تختلف من إنسان لآخر؛ فبعض الناس يبعث على هيئة القردة، وهؤلاء هم النمّامون الذين ينمّون بين الناس ـ أي ينقلون الكلام بينهم ـ وهم أهل الفتنة: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (1)، وهم سرّاق القلوب. حينما تزوّج المأمون بوران ابنة الفضل بن سهل ـ وكان المأمون يحترمه ـ التفت إليه في صبيحة زواجه وقال: هل لك من حاجة؟ فإني اُريد أن اُكافئك؟ قال: بلى. قال: ما هي؟ قال: اُريد أن تحفظ لي قلبك من السرقة. قال: ماالذي تقصده؟ قال: من النمامين الذين ينقلون كلاما لم أقله؛ فيقلبوا رأيك عليَّ، فصاحب السلطان كراكب الأسد(2)، قد ينقلب عليه الأسد بين آونة واُخرى. فقال له: لا، بل لك خمس أفريقيا(3).

فالنمام: سارق القلوب، وهو يحشر على هيئة القرد؛ لأن القرد إن تعطه تملّقك، وإن لم تعطه انقلب عليك. ففي رواياتنا أن اُناسا يتخبّطون في عرصات القيامة لا يقدرون على الحركة: لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا(4)، وهؤلاء هم أكلة الربا(5). فالذي يأكل الربا يتخبّط دون توازن في حركته؛ لأنه اعتدى على أقوات الضعفاء. ونحن الآن نعيش في عصر من الصعوبة أن يتخلّص فيه الإنسان من الربا؛ لأن المؤسّسات تكاد تكون كلها رِبوية، ونادرا ماتجد معاملة تخلو من الربا، مع أن الربا يمحق الثروة ويقضي عليها(6).

وقسم آخر يحشرون مقطوعي الأيدي والأرجل، وهؤلاء هم الذين يؤذون جيرانهم؛ لأن الجار أحد أفراد العائلة. وكانت العرب تعتني بالجوار، وقد أكّد الإسلام على هذا. وقسم تقرض شفاههم، وكلما قرضت وفيت، وتسيل ألسنتهم قيحا فيتقذّرهم أهل المحشر، وهؤلاء هم الخطباء الذين يأمرون الناس بما لا يأمرون به أنفسهم، فيأمرون الناس بالإصلاح والأمانة والعفّة وهم لا يتّسمون بها، وبهذا فإنهم يخدعون الناس(7).

فهذه القراءة (الصوَر) تعني أن الصورة ترسم للإنسان، ثم ينفخ فيه الروح ويبعث على الصورة التي رُسمت له في القبر. والروايات بهذا المعنى كثيرة.

وبناء على هذه القراءة فإنه لا توجد روح من الأرواح ليس لها ثقب في الصُّور (بوق ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام )؛ فلكلّ صورة ثقب، فإذا نفخ بعثت إليها الحياة.

يتبع…

___________________

(1) القلم: 11.

(2) من حكم أمير المؤمنين عليه السلام . نهج البلاغة / الحكمة: 262.

(3) الجامع لأحكام القرآن 19: 143، تاريخ بغداد 7: 331، تاريخ اليعقوبي 2: 409.

(4) البقرة: 275.

(5) تفسير القمّي 1: 93، 2: 7، 2: التبيان 358 ـ 359، الجامع لأحكام القرآن 3: 355.

(6) قال تعالى: « يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ » البقرة: 276.

(7) الأمالي ( المرتضى ) 1: 5.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة