كشكول الوائلي _ 112

img

رجـع

وبهذا فإن الإمام عليه السلام يضرب لنا مثلاً سامياً في هذا اللون من السلوك الاُسروي؛ فإذا لقّب بزين العابدين فلأن عبادته تمتدّ على مساحة واسعة من الحياة، مساحة أوسع من التصور الذي يتغلغل في رؤوسنا، والذي يوحي لنا بأن العبادة لا تعدو الرقعة الجغرافية للمحراب. إن الدنيا بأجمعها وبأسرها محراب في نظر الإمام عليه السلام إذا ما روعي في كلّ شيء فيه وجه اللّه‏ تعالى، فكل مظهر من مظاهر الحياة محراب تُحارب فيه النفس الأمّارة، ويحارب فيه الشيطان. فالدّكان محراب والمصنع محراب والمدرسة محراب؛ فإذا لم تغشّ في المعاملة في دكّانك ولم تسرق من وقت صاحب العمل، ولم يسرق صاحب العمل أجرك كان كل ذلك عبادة، بل من أحسن العبادات. ثم إن العمل بحدّ ذاته عبادة، والسعي إلى فعل الخير عبادة، ومراعاة وجه اللّه‏ تعالى فيما نقوم به عبادة.

الإمام عليه السلام يتعامل مع المجتمع بطهارة

ومن ألقابه عليه السلام أيضاً الزكي. والزكي هو الطاهر؛ لأن الزكاة هي الطهر. والإمام عليه السلام كان يتعامل بطهر ونقاء مع الآخرين. ومما يؤسف له أن البعض حينما يُتَعامل معه بنقاء وطهر يظنّ بمن يتعامل معه كذلك البلادة، مع أنها بعيدة كل البعد عن هذا المفهوم، بل هي الذكاء المقرون بالعفّة والنظافة. وكشاهد على هذا أنقل هنا موقفين حدثا أيام الإمام السجاد عليه السلام :

الأول: موقفه من الاُمويّين

فقد أخرج عبد اللّه‏ بن الزبير الاُمويين من المدينة، وكذلك فعل ثوّار الحرّة، ثم بعد ذلك هجم الاُمويون على المدينة واستباحوها. ومن هاتين الحادثتين نستطيع أن نرى بوضوح أخلاق الإمام عليه السلام العالية، ففي واقعة الحرّة مثلاً أعال عليه السلام عائلة مروان وكفلهم، وأوصل زوجته عائشة إلى أهلها بحراسة ابنه، وكذلك أعال أربعمئة عائلة من عوائل الاُمويين في المدينة.

الثاني: موقفه من أحد أبناء عمومته

لقد كان عليه السلام يخرج ليلاً يحمل على ظهره جراباً فيه الدقيق والخبز وصرر النقود، ويوزّعها على فقراء المدينة ومحتاجيهم، ويستقي لضعفاء جيرانه(1)، ذلك أن آبار المدينة بعيدة الغور، ولا يمكن للضعفاء وكبار السنّ أن يستقوا منها، فكان عليه السلام يأخذ الحبل والدلو ويستخرج الماء لهم. وكان قبل أن يذهب لبيته يمرّ بجاره ويسدّ حاجته من الطعام والشراب. وهذا الذي كان من الإمام لم يكن جديداً على محيطه ومجتمعه؛ فهذا الشاعر العربي يقول:

 ناري ونار الجار واحدة ***  وإليه قبلي تنزل القدرُ

 ما ضرَّ جارا لي يجاورني ***  ألاّ يكون لبابه سترُ

أعمى إذا ما جارتي خرجت *** حتى يواري جارتي الخدرُ(2)

وهذا اللون من الأجواء جسّده الإمام عليه السلام إسلاميّاً ووفق خلق الإسلام وآدابه بعد أن عاشه عليه السلام بكل تفاصيله وجزئياته، وقد تعمّق هذا عند العرب أكثر بعد أن جاء الإسلام العظيم، ورفد المجتمع بعطائه الثرّ ونبعه الذي لا ينضب، وكان الإمام عليه السلام أحد الروافد الإسلامية في كلّ مجالات الخير والمعرفة، وعبر هذا الرافد حدث تفاعل كبير بين الحضارة الإسلامية وبين التراث الاجتماعي.

وضمن هذا الإطار كان للإمام عليه السلام موقف مع أحد أبناء عمومته، حيث إنه عليه السلام كان يطرق عليه الباب ليلاً ليعطيه الطعام وبدر الدنانير وهو متلثّم، فيأخذها منه ويقول له: جزاك اللّه‏ خيراً، ولاجزى علي بن الحسين؛ لأنه يصل الناس ولا يصلني. وكان الإمام عليه السلام يغض عنه ولا يجيبه، بل ربما طرب لسماع هذا الدعاء.

واستمر الحال هكذا إلى أن توفي الإمام عليه السلام وانقطع البرّ عنه، فعرف أن الذي كان يأتيه هو الإمام عليه السلام نفسه الذي لم يكن يتوخّى في عمل البر هذا رضا المخلوق، وإنما كان يتوخّى رضا الخالق جلّ وعلا.

وهو عليه السلام بهذا يؤصّل مفهوم العبادة التي خطّ خطوطها العريضة وأوضحها أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: «إن قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجّار، وإن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار»(3).

فكان عليه السلام يعبد اللّه‏ لأنه أهل للعبادة والخضوع. وبهذا المنظور كان تقييم الإمام عليه السلام للعبادة، وعليه فلا غرابة في أن يلقّب بزين العابدين، وغيره من الألقاب الحميدة؛ لأنه عليه السلام نبع ثرّ للصفات الفاضلة، ومنجم ثري بمعادن الأخلاق الكريمة والآداب القويمة. فكل ألقابه إذن منتزعة من صفاته المنيفة وذاته الشريفة.

يتبع…

______________________

(1) مناقب آل أبي طالب 3: 294.

(2) شرح نهج البلاغة 5: 43، 17: 10.

(3) نهج البلاغة / الحكمة: 237، وقال عليه السلام : «إلهي ما عبدتك خوفا من نارك، ولا طمعا في جنّتك، ولكنني وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك». عوالي اللآلي 1: 20، 2: 11 / 18.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة