كشكول الوائلي _ 111

img

صفة عبادته عليه السلام

وعلى أية حال فمهما كثرت الروايات حول سبب التسمية، فإن منشأ انتزاعها موجود، وهو كثرة عبادته عليه السلام التي كانت تتّصف بالصدق والحرارة والتفاعل مع السماء، والبعد عن الرياء والتصنّع. وقد يشاهَد شخص يقف بين يدي اللّه‏ تعالى، لكن حينما تلمس مشاعره تجاه السماء تجد أنها خامدة بعيدة عن أي لون من ألوان الانفعال بها، أمّا السجاد عليه السلام فيقع ولده الإمام محمد الباقر عليه السلام في البئر وهو قائم يصلّي وكانت بعيدة القعر، فنظرت إليه اُمّه فصرخت، وأقبلت تضرب نفسها من حوالي البئر وتستغيث به وتقول له: يابن رسول اللّه، غرق والله ابنك محمّد. وكلّ ذلك لا يسمع قولها ولا ينثني عن صلاته، وهي تسمع اضطراب ابنها في قعر البئر في الماء. فلما طال عليها ذلك قالت له جزعا على ابنها: ما أقسى قلوبكم يا أهل بيت النبوة! وهو مستمرّ في صلاته ولم يخرج عنها إلاّ بعد كمالها وتمامها، ثم أقبل عليها فجلس على رأس البئر، ومدّ يده الشريفة إلى قعرها ـ وكانت لا تنال إلاّ برشاء طويل ـ فأخرج ابنه محمدا بيده وهو يناغيه ويضحك، ولم يُبلّ له ثوب ولا جسد بالماء(1).

أو يحترق بيته وهو يصلّي، فيقال له: النار قد التهمت البيت. فلا يلتفت، بل يقول بعد أن يتم صلاته ويسأل عن سبب عدم التفاته: «كنت مشغولاً عنها بنار الآخرة».

ومعنى هذا أنه كان منفعلاً بأجواء اُخرى غير هذه الأجواء التي هو فيها.. أجواء داخلية يعمرها الحب ويغمرها الاتّصال باللّه‏ تعالى. أمّا هذه الأجواء الخارجية فلم تكن لتأخذه عن حالة اتّصاله باللّه‏ تعالى.

فنمط العبادة عنده عليه السلام لا يقف عند حدود المحراب فقط، بل يتعدّاه إلى الحياة العملية. وهذه نقطة هامّة أودّ أن أسترعي الانتباه إليها واُلفت الأنظار إلى أهميتها، فالكثير يظن أن العبادة إنما هي في المحراب فقط؛ فيؤدي صلاته وصيامه ثم ينتهي الأمر عند هذا الحدّ. وهذا تصوّر سلبي لها، وغير صحيح للعبادة؛ لأن الدنيا كلّها ميدان لها؛ الشارع والمؤسّسة والمدرسة والبيت والاُسرة والمصنع والسوق وغير ذلك.

فالمرء حينما يستخدم الشارع ضمن الضوابط الشرعية والآداب الإسلامية(2) فإنما هو في حالة عبادة؛ لأنه حينئذ يحافظ على آداب الشارع وعلى السلام بينه وبين المسلمين الذين يلقاهم، حيث إنه يستقبلهم ببشر وبشاشة وأخلاق ووجه يطفح حباً لهم واحتراماً. وهكذا نجد أن هذا التصرّف عبادة لأنه ضمن الضوابط الإسلامية.

وكذلك معاملاته معهم إذا كانت تتميّز بالعفّة والنزاهة الصدق كالبيع والشراء وغير ذلك من المعاملات، فإنه حينئذ يكون في حالة عبادة؛ لأن من يعفّ يده ولسانه، ولا يعتدي على الآخرين، بل إن المروءة تتملّكه في كلّ معاملاته مع الناس لهو في نطاق الإسلام وضمن حدوده، وبالتالي فهو في حالة عبادة؛ لأنه في حالة قربى إلى اللّه‏ تعالى.

وهذا الأمر يجري أيضاً مع الاُسرة، فإذا كان تعامله مع زوجته وأطفاله تعاملاً إسلامياً صحيحاً كان في حالة عبادة، كان الإمام السجاد عليه السلام قد رُبي يتيم الاُم؛ لأن اُمّه « شاه زنان » قد ماتت وهي نُفساء به، فكفلته جارية لأبيه الإمام الحسين عليه السلام وربّته حتى كبر، فكان عليه السلام يتعامل معها بأرقى ألوان التعامل الإسلامي، بل إنه عليه السلام كان يعاملها كاُمّ له، فهو لم يعرف اُمّاً غيرها، ولذا كان يعبر عنها بقوله: «اُمّي». وكان إذا دخل الدار أولاها فروض الطاعة المترتبة للاُم على ولدها، فكان إذا جلس يؤاكلها انتظرها حتى تمدّ يدها إلى الطعام وتأخذ منه ثم يمدّ يده الكريمة ويأكل، ولما سئل عليه السلام عن ذلك وقيل له: نراك تتوقّى كثيرا عندما تجلس معها يابن رسول الله؟ أجاب عليه السلام بقوله: «إني أكره أن تسبق يدي إلى ما سبقت عينها إليه، فأكون قد عققته»(3).

وهذا اللون من السلوك الاُسروي قطعاً يبعث على خلق جوّ من الاحترام المتبادل والحبّ والودّ والتقدير. وعليه فإننا نجد أن بناء النظام الاُسري هو من صلب العبادة التي رسمها الإسلام الحنيف؛ فإن لم يُراعَ هذا النظام تفكّكت الاُسرة. لقد قرأت إحصائية نشرتها وزارة العدل الكويتية حول عدد المطلّقات خلال فترة أربعة أشهر، فكانت أسباب الطلاق كارثة حقيقية مع أننا نعيش في بلد مسلم يعيش حالة رخاء وخير، وإضافة إلى هذا فإنه يتوفّر على جوانب إيجابية كثيرة. فمقتضى القاعدة أنه ليس هناك ما يوجب الطلاق بهذه الصورة المرعبة، وبالتالي ليس هناك ما يوجب حالة التفكّك الاُسري التي نراها حاصلة اليوم، والأمر لا يستلزم أكثر من أن نتأدّب قليلاً بآداب الإسلام.

إن الواقع الذي نعيشه اليوم هو واقع بداوة يرفضه الإسلام رفضاً تاماً؛ ولذا فإن الواجب أن نقلع عنه ونتحوّل إلى الواقع الإسلامي المتأدّب بكلّ تفاصيله ودقائقه وجزئيّاته، وإلاّ فإن بلداً يغترف من الحضارة الحديثة ضروباً وضروباً، ويتفاعل تفاعلاً كاملاً صباح مساء مع نواقل الحضارة، المفروض به أن ينعكس كلّ هذا على سلوكياته وخصوصاً في دنيا الاُسرة.

والطلاق بهذا الشكل المروّع يخلق مجموعة من الأبناء من الممكن أن يصبحوا مجرمين، وهذا كلّه يتوقّف على السلوك الاُسروي، فعندما يدخل الأب بيته يجب عليه أن يحمل وجهاً باشّاً ضاحكاً؛ فهذه المرأة التي أخذ الرجل زمام أمرها بكلمة اللّه‏، يجب عليه أن يعاملها بأمر اللّه‏ وحسب أخلاقيات دينه، وأن يربيها ويقود زمامها. إن المفروض أن الرجل هو من له حق القوامة في الاُسرة، وكان الرسول صلى الله عليه وآله يقول: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»(4).

فالمفروض بالرجل أن عليه حينما يدخل بيته أن يشيع البسمة فيه، وأن ينشر جوّاً من الوئام والمودّة والتسامح في بعض الاُمور غير الأساسية المشفوعة بالتنازل عن بعض الحقوق الشخصية مقابل استمرار ثبات الاُسرة وعدم تفكّكها، ومن أجل رعاية هذه البذرة التي يجب أن تربّى تربية سليمة وفي جوّ اُسريّ طيّب. وهو أمر نحن جميعاً مسؤولون عنه، فأمر تربيتهم بهذا الشكل منوط بنا أمام اللّه‏ تعالى، وإن أكثر عذاب القبر يوم يموت الإنسان هو من سوء الخلق مع العيال(5). أي أن المرء يعذّب في قبره بسبب سوء خلقه مع عياله.

يتبع…

_________________

(1) دلائل الإمامة: 197، مناقب آل أبي طالب 3: 278، بحار الأنوار 46: 34 / 29.

(2) التي سنّها النبي الاكرم صلى الله عليه وآله‏وسلم فقال « إياكم والجلوس بالطرقات ». قالوا: يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بدّ نتحدث فيها. فقال صلى الله عليه وآله ‏وسلم « إذا أبيتم إلاّ المجلس، فأعطوا الطريق حقّه ». قالوا: وما حقّ الطريق؟ قال صلى الله عليه وآله ‏وسلم: « غض البصر، وكفّ الأذى، وردّ السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ». مسند أحمد 3: 31، صحيح مسلم 6: 165.

(3) الخصال: 518 / 4، مكارم الأخلاق: 221، مناقب آل أبي طالب 3: 300.

(4) الفقيه 3: 555 / 4908، سنن ابن ماجة 1: 636 / 1977.

(5) قريب منه في الاعتقادات: 59.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة