فليرحل معنا ـ 4

img

تقديم: هدى الشملاوي/ أم السادة

في هذا المورد يقول بعض الفضلاء: لا يمكن لأي فرد مهما أتى بالواجبات وترك المحرمات وأدى المستحبات وهجر المكروهات أن يلتحق بالإمام وأن يكون من أصحابه من دون أن يحدد جهة الحق التي تسبق الظهور الشريف، بحيث يتمثل لها في تنفيذ أوامرها وتطبيق أقوالها، ويعيش معها تجربة الطاعة المطلقة حتى تكون له الطريق الموصل لإمامه المهدي سلام الله عليه، فإن نجح في ذلك فسوف يكون مهيئاً ومعداً للالتحاق بركب أصحاب الإمام متى ما وفق وبقى لوقت الظهور المبارك، كل ذلك لابد من حدوثه؛ لأن السير نحو الإمام والالتحاق به لا يتم إلا من خلال التجارب التي يستطيع الفرد معايشتها والتعامل والتفاعل معها ومن ثم النجاح الكامل فيها.

إذن من يريد الرحيل مع سيد الشهداء لابد له أن يبذل، وعلى حسب درجة التوطين سيكون البذل، والبذل ليس محدوداً بزمان سيد الشهداء بكل يشكل كل زمان، ففي زماننا هناك من يتعاطى مع عاشوراء بشكل محدود: دمعة، حضور، نحن لا نقلل من هذا، فله ثوابه العظيم، فقد ورد في حديث مناجاة موسى عليه السلام، قال: «يا رب لم فضلت أمة محمد صلى الله عليه وآله على سائر الأمم؟ فقال الله تعالى: فضلتهم لعشر. قال موسى: وما تلك الخصال التي يعملونها حتى آمر بني إسرائيل فيعملونها؟ قال الله تعالى: الصلاة و الزكاة والصوم والحج والجهاد والجمعة والجماعة و القرآن والعلم وعاشوراء…». واعجباه! لقد جعل عاشوراء في مصاف الصلاة والحج والجهاد والقرآن التي فضلت بها أمة الإسلام على الأُمم الأخرى. وهذا هو سر وعظمة عاشوراء وكونه من أيّام الله.

ثم إن موسى عليه السلام سأل بعد ذلك: «يا رب وما عاشوراء؟ قال: البكاء والتباكي على سبط محمد صلى الله عليه وآله والمرثية والعزاء على مصيبة ولد المصطفى. يا موسى، وما من عبد من عبيدي في ذلك الزمان بكى أو تباكى وتعزّى على ولد المصطفى إلاّ وكانت له الجنّة ثابتاً فيها. وما من عبد أنفق من ماله في محبّة ابن بنت نبيّه طعاماً وغير ذلك كان معافاً في الجنّة وغفرت له ذنوبه».

الدمعة والإنفاق بذل يُثاب عليه صاحبه، لكننا ندعو لبذل يتناسب مع بذل سيد الشهداء وأصحابه، فإن من الأصحاب: محمّدِ بن بشر الحضرمي حينما كان في كربلاء بلغه أنه قد أُسرَ ابنُه بثغر الرّي فقال: عندَ اللهِ احتسبه، ونفسي ما كُنتُ اُحب أَن يُؤسرَ وأن أبقى بعده!

فَسمِعَ الحسين عليه السلام قولَه، فقال: رَحِمك َ اللهُ، أنت في حل من بيعتي، فاعملْ في فكاكِ ابنِك.

 فقال: أكلتني السّباعُ حيّاً إ نْ فارقتُكَ!

 قال له سيد الشهداء: فاعطِ ابنَكَ هذهِ الأثواب البُرُود، يستعينُ بها في فداء أخيهِ.

 فأعطاه خَمسةَ أثوابَ قيمتُها ألف دينار. وقد ورد في زيارة الناحية المقدسة: «السلام على بشر بن عمر الحضرمي، شكر الله لك قولك للحسين عليه السلام و قد أذن لك في الانصراف: أكلتني إذن السباع حياً إن فارقتك، وأسأل عنك الركبان و أخذلك مع قلة الأعوان!! لا يكون هذا أبداً».

للإمام جذبات عظيمة لأصحابه، حتى الولد وفلذة الكبد لم يعد يهمهم، كما أن وجود هذا الصحابي بشير الحضرمي في أرض المعركة له خصوصية جعلته يقف هذا الموقف. يقول العرفاء والأساتذة: إن المرحلة التي يبلغها العارف والسالك على مدى ثلاثين أو أربعين سنة يتعبد ويرتاض، ويواصل الدراسة على يد الأساتذة، ويكثر البكاء والتضرع، ويكابد المشاق لأجلها، يستطيع أن ينالها شاب في مدة عشرة أيام أو خمسة عشر يوماً، أو عشرين يوماً في الجبهة، أي منذ اللحظة التي يتوجه فيها ذلك الشاب إلى الجبهة ـ بأي دافع كان ـ مع وجود الدافع الديني الممتزج بحماس الشباب، يتحول ذلك الاندفاع لديه بالتدريج إلى عزم على التضحية والجود بكل وجوده ويسطر ذكرياته أو وصيته، وهو من تلك اللحظات وحتى لحظة استشهاده يزداد تحمساً وشوقاً، ويصبح سيره أسرع وقربه أدنى، إلى أن تأتي الأيام الأخيرة وتحلّ الساعات واللحظات الأخيرة، فإن يكن قد بقي منه شيء حينذاك، فهو كجمرة تتلظى، تلسع قلوب من يقرؤون تلك الوصايا؛ لذلك كان سماحة الإمام الخميني (قدس سره) يحث على قراءة وصايا الشهداء، وصايا صرفة لا يبتغي شيئاً وراءها، ويظهر من ذلك أنه (قدس سره) ربما هو نفسه كان قد قرأ تلك الوصايا وأثّرت في قلبه المبارك تلك الجمرات المتلظية، فرغب في أن لا يحرم الآخرين من هذه الفائدة. كما ذكرناه كان قطرة من بذل أصحابه، أما بذل سيد الشهداء فهو منقطع النظير، يشير في خطبته إلى شيء منه  يقول: «كأني بأوصالي تقطـّعها عُسلانُ الفلوات بين النواويس وكربلاء، فيملأنَ مني أكراشاً جـُوَفاً وأجربةً سُغباً». هذا الكلام كناية عن قتله عليه السلام ونبذه بالعراء وتركه عرضة لما ذكر. والمعنى هنا مجازي؛ إذ إن جسم المعصوم لا تقربه الوحوش ولا تمسّه بسوء. والمعنى أنه عليه السلام يقول: من سيتولى قتلي عصابة وحشية هي أشبه ما تكون بذئاب الفلوات الجائعة، تقطّع أوصال القتيل وتبعثر أعضاءه ولا تكتفي بالمقدار الذي يسد جوعتها، بل تقطع فريستها تقطيعاً لا يترك لأحد بعده فيها مغنم. يقول: سيقطعون أوصالي، فقد كنّى عليه السلام عن أهله وأولاده وكل من له صلة به بالأوصال؛ لأن صلتها به تنقطع بوفاته، بينما شبّه أعداءه بالذئاب الضارية، التي ستهجم عليه فتقطع عضوه الأول علي الأكبر، وعضوه الثاني عبد الله الرضيع، وعضوه الثالث العباس، وعضوه الرابع القاسم بن الحسن عليه السلام… وهكذا ستقتله عصابة وتسلبه، وتوزّع أهله وتسبي نساءه وأولاده. وكأنهم في عملهم هذا ذئاب جائعة تريد أن تشبع نهمها وتملأ أجوافها. فأعداء الحسين لم يشبعوا حقدهم الدفين إلا بتقطيع أوصال الحسين عليه السلام وقتل عترته الطاهرة وتوزيع أشلائه بين النواويس. النواوييس النواويس: أرض تقع شمال غربي كربلاء. والنواويس جمع ناووس: وهو مِن القبر ما سدّ لحده. وكانت بها مجموعة مقابر للنصارى والأنباط، واليوم يقال لها أراضي الجمالية. وقيل: إنها في المكان الَّذي فيه مزار الحر بن يزيد الرياحي. فهل إن وصلات عظام الحسين وقطع لحمه التي عجنتها وطحنتها خيول الأعوجية وصلت لهناك، أم أنه يعتبر الحر من أشلائه؟ اللهم العن العصابة التي جاهدت الحسين وشايعت وبايعت على قتله… السلام عليك يا أبا عبدالله وعلى الأرواح التي حلّت بفنائك، عليك مني سلام الله أبداً ما بقيت وبقي الليل والنهار.

 

الكاتب الادارة

الادارة

مواضيع متعلقة