كشكول الوائلي _ 93

img

في مسؤوليّة الآباه تجاه الأبناء

ثم إن هذه الوصايا التي ذكرها عنه القرآن الكريم تتضمّن اُمورا كثيرة، وأول ما يلفت النظر فيها تعبير القرآن الكريم بقوله: ﴿ يَابُنَيَّ ﴾، ونحن نعرف أن التصغير يأتي إمّا للتحقير، أو للتعظيم، أو للرقّة والشفقة. وهذه الاُمور تحدّدها القرائن، فلقمان عليه السلام حينما يقول لابنه: ﴿ يَابُنَيَّ ﴾، فالقرينة هنا تعيّن المراد من التصغير، وهو الشفقة.

ونفهم من هذه المحاورة أن القرآن الكريم يريد أن يحدّد لنا مسؤوليّة الآباء تجاه الأبناء ؛ لأن بين الآباء والأبناء مسؤولية متبادلة ؛ فالأب والاُمّ ـ  باعتبارهما السبب الطبيعي في تكوين الولد ـ لابدّ أن يرسما له الطريق الطبيعي في الحياة كيلا يتعثّر. فالولد في أوّل حياته قليل التجارب، وإدراكه ليس عميقا. لأن الإدراك لون من ألوان المهارة، وهو مهارة فكريّة، والتجارب تعمّق هذه المهارة.

فالأب يعتبر مجرّبا، وعليه أن يضع خلاصة تجاربه أمام الأبناء باعتبار أنهم وجدوا بسبب الآباء، وبلحاظ أنهم السبب الطبيعي في وجودهم، فيفترض بهذا السبب الطبيعي أن يلعب دوره في التوجيه كما لعب دوره في الإيجاد. فالأب والاُمّ سبب في نعمة الوجود على الابن، ولكن إلى جانب نعمة الوجود هناك نعمة التربية، فليست مسؤوليّة الآباء أن يتسبّبوا في وجود الأبناء أو إخراجهم إلى عالم الوجود، وإنما تكمن حقيقة مسؤوليتهم في أن يجنّبوا أولادهم المصير المظلم والاعوجاج في السلوك. والقرآن يريد أن يبيّن لنا هذه المسؤولية.

وقد عرف عن الاسكندر أنه كان يحترم معلّمه أكثر من احترامه لأبيه، فقيل له: لماذا؟ فقال ما حاصله: لأن أبي أخرجني جسدا من دم ولحم، وهذا ليس وجودا مشرّفا لأنني اُشارك فيه حتى الحشرات، أما المعلّم فقد أنشأني فكرا، والإنسان إنسان بفكره لا بدمه ولحمه  ؛ ولذا يقول ابن الشبلي البغدادي:

صحةُ المرءِ للسقامِ طريقٌ *** وطريقُ الفناءِ هذا البقاءُ

بالذي نغتذي نموت ونحيا *** أقتَلُ الداءِ للنفوسِ الدواءُ

قبّح اللّهُ لذّةً لأذانا *** نالها الاُمّهاتُ والآباءُ

نحن لولا الوجودُ لم نألمِ الفقــ *** ـرَ فإيجادُه علينا بلاءُ

فنحن نتألّم لأننا وُجدنا وسوف نفارق هذا الوجود، ولو لم نوجد لم يوجد الألم. وهذه نظرة تشاؤمية، لكنها تكشف عن أن الأبوين عليهما مسؤوليّة كبيرة تجاه الولد، فالمفروض بالأب أن يضع خلاصة تجاربه وخلاصة عقائده وأفكاره أمام ابنه. ونحن لا نطالب الأب بأن ينقل لابنه ما يحمل من موروثات أو قضايا خرافيّة أو خلفيّات غير مطلوبة، وإنما نطالبه بأن ينقل له عقيدته الصحيحة وخُلُقه، ويعلّمه تجارب الحياة بقدر حدود معرفته:  ﴿لاَ يُكلِّفُ اللَّهُ نَفْسا إِلاَّ وسعها [1]﴾. فلا يمكن أن نطلب من أب عامي أن يهذب ابنه غاية التهذيب، وإنما عليه أن يزوّده بخلاصة التجارب التي مرّ بها في الحياة ؛ لأن اللّه قد حمّله مسؤوليّة ذلك.

يتبع…

__________

[1]  البقرة: 286.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة