شرح دعاء الصباح 52

img

﴿وَبابَكُ مَفتوُحٌ لِلطّلَبِ وَالوُغُولِ﴾

وغل يغِل وغولاً: دخل. ومفتوحيّة بابه في مقامَيْن:

أحَدُهُما: مقام الاستنفاع بنعمه وآلائه ونواله. ومعلوم أنّ الكلّ مستغرقة في بحر أفضاله، فالعالم كمحافل ومبانٍ مشيّدة، والشمس والقمر والنجوم كمصابيح منضّدة، وأنواع النبات والفواكه بأغذيتها وأشربتها، والحيوانات بلحومها وألبانها وغيرها موائد، وذوات النّفوس الآدميّة عليها قواعد لاجتلاب الفوائد والعوائد. ولو لم يكن إلّا الماء لتبريد الكبد، وإلّا الهواء لترويح القلب لكفى. كيف، والأغذية الهنيئة، والأشربة المريئة الّتي سلبت أفئدتكم أعذبُ لكم وأحلى؟

وثانيهما: مقام الاستشعار بالمعارف الرّبانيّة. وظاهر أنّ نصب علائم صفاته، ودلائل ذاته بمرتبة تمّت الحجّة، وكملت الكلمة، كما قال تعالى: ﴿سَنُرِيهُم آياتِنا في الآفاقِ وَفي أنفُسِهِم حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أنَّهُ الحقُّ أوَلَم يَكْفِ بِربِّكَ انَّهُ عَلى كُلِّ شَيء شَهيدٌ ([1]).

وفي كلِّ شيء له آيةٌ

  تدلُّ على أنّه واحد([2])

ولا سيّما الآيات الكبريات، والحجج البيّنات([3]) الّتي من عرفها فقد عرف الله، وبمقتضى القاعدة العرفانيّة القائلة بأنّه: «إذا جاوز الشَّيء حدّه انعكس ضدّه». وقد تكاثرت الآيات وتوافرت الكرامات بحدّ يقول الغافل: أين أين؟ وعند أرباب الشهود ليس ممّا سوى أثر في البين، أولم ترَ إلى النّحل ومسدّساته، وإلى العنكبوت ومثلثاته، وإلى الطبع وتشكيلاته، وكلّ ذلك بإيحاء الله وإلهاماته، بل الكلّ من الدُّرّة إلى الذَّرّة مجالي قدرته، ومراتب علمه؟

قال السيّد المحقّق الداماد في (القبسات): «ما من معجزة فعليّة مأتيّ بها إلّا وفي أفاعيل الله تعالى قِبلَنا من جنسها أكبر وأبهر منها، وأينق وأعجب، وأحكم وأتقن؛ فَخَلقُ النّار مثلاً أعظمُ من جعلها برداً وسَلاماً على إبراهيم، وخَلْقُ الشّمس والقمر والجليديّة والحسّ المشترك أعظمُ من شقّ القمر في الحسّ المشترك([4]).

ولو تدبّر متدبّر في خلق معدّل النّهار، ومِنطقة البروج متقاطعين على الحدّة والانفراج، لا على زوايا قوائم، وجَعْلِ مركز الشَّمس ملازماً لسطح منطقة البروج في حركتها الخاصّة، وما في ذلك من استلزام بدائع الصُّنع وغرائب التدبير، واستتباع فيوض الخيرات ورواشح البركات في آفاق نظام العالم العنصري، لَدَهشته الحيرةُ، وطفق يخرّ مبهوراً في عقله، مَغشيّاً عليه في حسّه، وذلك إن هو إلّا فعلٌ ما من أفاعيله سبحانه، وصنعٌ ما من صنائعه عزّ سلطانه» انتهى.

وبالجملة، عدم إدراك النّاس آيات الله تعالى وبيّناته؛ لأنّهم ينظرون إلى الأشياء نظر الحسّ، ولا ينظرون نظَر العقل، ولا يتفكّرون في خلق السّماوات والأرض، ولا يرجعون المركّبات إلى أُصولهم البسيطة وموادّهم العريّة عن الحُليّ والحُلّل بذواتها، ولا يأخذون الأجناس والأنواع بـ«شرط لا» بالنّسبة إلى الفصول والمصنّفات والمشخّصات، حتّى يروا الكلّ في القوابل طواري، ومن حضرة الفاعل عواري.

وكما مرّ، ينبغي أن ينظر الإنسان إلى صنائع الله نظر مستغرب نشأ، ولم ينظر إليها حتّى بلغ أشدّه، وعند هذا رأى آيات ربّه الصغرى كبرى، فكيف الكبرى؟ ولا آية من آيات الله تعالى أكبر من الإنسان، ولا اسم له سبحانه أعظم منه، سيّما الإنسان الكامل، وكلّ فعل منه غريب، وكلّ صفة منه عجيبة، وذاته اُعجوبة أعجب العجائب، ولا يدرك غرابته واُعجوبيّته؛ لأنّ المدرِكين والمدرَكين أمثال، و«الشيء يعزّ حيث يندر»، فلو فرض أنّ نوعه منحصر في فرد ولا سيّما أنّ ذلك الفرد كان إنساناً كاملاً لقضى منه آخر العجب بالنّسبة إلى الأنواع الأُخر، وكان كلّ فعل منه غريباً غاية الغرابة، حتّى زراعته وحياكته. وكم من أمر غيبيّ لا تعدّ([5]) يخبر به الدّهقان الزّارع، مثل أنّ بذر الزّرع متى ينبت، وما هذا الزّرع، وكيف هو، وكم هو، ومتى يبيض، وإن كان في الشّمس كيف نشوءه، وفي جهة خلافه كيف يكون، وهكذا «فعلل وتفعلل». هذا فيمن يعدّه النّاس دانياً عامياً، وفي الحاشيّة الأُخرى ـ أعني من يعترف الكلّ بكماله كَلّ اللّسان عن نعوته ـ:

لا يُدرِكُ الواصِفُ المُطرِى خصائصه   وَإنْ يَكُنْ بالِغاً في كُلِّ ما وَصَفا

فهو كأنّه ربّ النّوع، كما أنّ الإنسان مع فرض الانحصار المذكور كأنّه ربّ الجنس.

وقال الشيخ رئيس الحكماء في آخر إلهيّات الشّفاء([6]): «ورؤوس هذه الفضائل: عفّة وحكمة وشجاعة ومجموعها العدالة، وهي خارجة عن الفضيلة النظريّة. ومن اجتمعت له معها الحكمة النظريّة فقد سعد، ومن فاز مع ذلك بالخواص النبويّة كاد أن يصير ربّاً إنسانيّاً، وكاد أن يحلّ عبادته بعد الله تعالى، وهو سلطان العالم الأرضي وخليفة الله [فيها]» انتهى كلامه وكتابه.

ولكون النّاس أهل الحسّ صاروا يتعجبّون ـ كما قال الشيخ الّرئيس ـ عن جذب المغناطيس مثقالاً من الحديد، ولم يتعجّبوا من جذب النّفس هذا الهيكل الثقيل، وتحريكه ميمنةً وميسرةً، وقدّاماً وخلفاً، وتصعّداً وتسفّلاً، وعَدواً وهُوَيْناً، وهو كالكرة تحت صولجان قدرتنا بحول الله تعالى.

يتبع…

الهوامش:

([1]) فصلت: 53.

([2]) البيت لأبي العتاهية: الأنوار الزاهية في ديوان ابي العتاهية: 70، جوامع الجامع 3: 430، تاريخ بغداد 6: 252.

([3]) وفي الحديث عن «الصادق×»: «الصّورة الإنسانيّة أكبر حجة لله على خلقه»، [جامع السعادات 1: 18]. وعن «الرضا»: «قد علم اُولو الالباب أنّ ما هناك لا يعلم إلاّ بما هاهنا»، [إلزام الناصب 1: 57، دون نسبة لأحد]. قال الله تعالى: «هو الحى العليم القدير المريد السّميع البصير» إلى آخر الأسماء الحسنى. والإنسان الكامل مظهره الأعظم، وهي الحيّ العالم القادر السّامع الباصر، إلى آخر الأسماء؛ فانّة متعلّم تعلّماً وجوديّاً لجميع الأسماء: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا﴾ (البقرة: 31)، فوجوده يدلّ على الذّات المستجمعة لجميع الكمالات، وهو حجّة على منكر خالقه بشرط أن يعرف هذا الهيكل للتوحيد. منه.

([4]) إشارة إلى الجمع بين العقل والنّقل؛ فانّ خير البيانين هو البيان الجامع بين الأوضاع، فالسّوق من عالم الباطن إذا تنزّل إلى الحسّ المشترك الذي هو كمرآة ذات وجهين كان أمراً واقعيّاً؛ لأنّ الحاسّ لهذه المحسوسات أيضاً هو الحسّ المشترك، إلاّ إنّ إحساس هذه بوجهه إلى الخارج وإحساس ذلك بوجهه إلى الدّاخل، وكلاهما مشاهدة.

فالرّاؤون حيث صفت مشاعرهم صفا المدرك في حقّهم عن الظّلمات، ورؤية الصّافي رؤية غيره فيه لا غير، إذ شيئيّة الشيء بصورته لا بمادّته؛ لكونها قوّة، وتبدل وجودٍ، رائين لجلالة وجود النبيّ| وتابعيّتهم في الأعمال والصّفات والوجود، فيبدلّهم تلك الشّهامة، ويصيرون بالفعل في المشاعر الأخرى في الجملة بحسبهم. منه.

([5]) كذا.

([6]) الشفاء الألهيات: 455.

الكاتب الملا هادي السبزواري

الملا هادي السبزواري

مواضيع متعلقة