شرح دعاء الصباح 30

img

وعدُّ القوم القوى الدرّاكةَ والمحرّكة، والصور المنوّعة، والطبائع ـ وبالجملة المبادئ المقارنة كالمفارفة ـ ملائكةً وجههُ([1]) أنّهم إلهيّون، وهم كالمتألّهين عباد الله المخلصون، وخادم القضاء الإلهي، كما يقال: إن الطبيب خادم الطبيعة، فامتلؤوا من نور الله، ولم ينظروا إلّا إلى وجه الله، وهو قرّة أعينهم، ونصب نواظرهم. وللمبادئ ـ بل لكلّ شيء ـ جهةٌ نورانيّة هي أقهرُ وأبهر، وجهةٌ ظلمانيّة هي مقهورة مبهورة في الواقع وفي نظرهم وشهودهم، فيرون كلَّ شيء متعلّقاً بعرش علم الله، والمبادىء مظاهر درجات قدرة من هو رفيع الدّرجات ذو العرش لا إله إلّا هو، ولا حول ولا قوّة إلّا به. فيتبدّل نظرهم ويبدّل، فيرونها ملائكةً، بل هناك نظر آخر أشمخ([2])، وهو النّظر الفنائي، وهو أنّ سقوط الإضافة عن الموادّ والماهيّات الكثيرة، والتعلّق والإضافة إلى الواحد الأحد إضافة إشراقيّة يجعلها واحدة كأيدٍ عمّالة، بل يدَيْن، بل يد واحدة له «كلتا يدي ربّي يمين»([3]).

ولا معنى فيه تعالى إلّا صريح ذاته، وكلّ كمالاته عين ذاته، ومن هنا ورد في أسمائه الحسنى: «يا مَن لا شَرِيكَ لَهُ وَلا وَزِير»([4]).

وفي القرآن المجيد: ﴿هُوَ الَّذيِ يُصَوِّرُكُم في الأرحامِ([5])، ﴿الله يَتَوفّى الأنفُسَ حِينَ مَوتِها([6])، ﴿اتّقَوُ الله ويُعَلِّمْكُمُ الله([7])، ﴿وَيُعلِّمُهُمُ الكِتابَ وَالحِكمَةَ([8]).

ولهذا فيما نحن فيه طوى نصر ملائكته «عند محاربة النّفس والشّيطان» في نصره تعالى، وهذا مقام عدم رؤية الأسباب وقطعها، وإليه أُشير في دعاء كميل: «أسألُكَ بِحَقِّكَ وَقُدسِكَ وأعْظَمِ صِفاتِكَ وَأسْمائك أن تَجعَلَ أوقاتي في الّلَيلَ وَالنَّهارِ بِذِكِركَ مَعمُورةً، وَبِخِدمَتِكَ مَوصُولَةً، وأعمالي عِندَكَ مَقبُولَةً، حَتّى تَكوُن أعمالي وأورادي كُلُّها وِرداً واحِداً وَحالي في خِدمَتِكَ سَرمَداً»([9]).

ومن المقام الأوّل قوله تعالى: ﴿وَما يَعلم جُنُودَ ربِّكَ إلّا هُوَ([10])، ﴿قُلْ يتَوفّاكُمْ مَلَكُ الموتِ الّذي وُكِّلِ بِكُم([11])، ﴿عَلَّمهُ شَدِيدُ القُوى([12]). وفي هذا النظر مباشر التّصوير إسرافيل وجنوده، وهذا مقام «أبى الله أن يجري الاُمور إلّا بأسبابها»([13]).

بيانٌ تَفصيليٌّ

التفّصيلُ في بيان وجود الملك والشّيطان، والإلهام والوسواس، وكيفيّة المحاربة والتّطارد بين جنودهما في معركة وجود الآدمي يستدعي تأسيس أُصُول وراء ما سمعت:

الأصَلُ الأوَّلُ: أن عالم الصّورة غير منحصر في هذا العالم الطبيعي، بل الصّور قسمان:

صُورٌ قائمة بالموادّ العنصريّة الدّاثرة الزّائلة.

وصُورٌ غير قائمة بها.

وهذه أُصول تلك، وهذه دائمة موجودة قبل تلك وبعدها لا دثور ولا زوال فيها؛ إذ لا محلّ لها، أو محلّها بسيط غير داثر. وهذه الصّور الأُصول ممّا اتفق عليه الإشراقيون والمشاؤون، إلّا إنّها قائمة بذواتها عند الإشراقيّين، وهي عالم المثال القائل به العرفاء أيضاً، وصدّق به الشرع الأنور، وبه يتمّ عالم البرزخ وعالم الذرّ، وقائمة بالنّفس المنطبعة الفلكيّة عند المشّائين، وصور الخيال وصور المرائي عند الشيخ الإشراقي شهاب الدّين السّهروردي عن عالم المثال.

الأصلُ الثّاني: أنّ للنّفس الإنسانيّة في ذاتها مشاعر عشرة هي اُصُولُ هذه المشاعر الجسديّة لتطابق العوالم الثلاثة: الطّبع والخيال والعقل، ولأنّ كلّ ما في العالم الأدنى فله مثالٌ في العالم الأعلى، بل في عالم مثالها مئة مشاعر([14])؛ لأنّ العشرة الّتي في عالم الطبع يضرب في العشرة الّتي في المثال، ففي كلّ واحد من العشرة المثاليّة تمام العشرة الطبيعيّة، بمعنى أنّ البصر الّتي([15]) هناك بصر وسمع وشمّ إلى آخره، وكذا السمّع التّي([16]) هناك([17]) سمع وبصر وشمّ إلى آخره، ثمّ في عالم عقلها ألف مشعر([18]) لأوسعيّة ذلك العالم منهما، وذلك على سبيل ضرب المئة في العشرة العقليّة بالمعنى المذكور.

الأصلُ الثّالِثُ: أنّ النّفس الإنسانيّة ذات وجهين:

وجه إلى الجنبة العالية والنّاحية المقدّسة، وهو بابه الدّاخلي إلى عالم الملكوت.

ووجه إلى الجنبة السّافلة، وهو بابه الخارجي إلى عالم الملك، وكلّ من الملكوت والملك ممّا يؤثّر في النّفس آثاره المختصّة. والنّفس تتأثّر منها([19]) بنحو «الخطرة»، و«الحال» و«الملكة» حتّى تبلغ إلى مقام الاستقامة والتمكّن، فتنخرط إمّا في سلك الملائكة بل تصير أعلى منهم، أو تلتحق بحزب الشّياطين بل تصير أدنى منهم. ولمّا كان الأصل والسّلطان كذلك، وكان الفرع والرّعايا بطوره وطرزه؛ إذ الأثر يشابه صفة مؤثّره، كان الحسّ المشترك أيضاً ذا وجهين، فهو كمرآة ذات وجهين: وجه إلى الخارج، ووجه إلى الّداخل. فكما ينطبع في وجهه الخارجي كلّ ما ينتقش في المشاعر الظاهرة، كذلك ينطبع في وجهه الدّاخلي من الباطن رقائق الحقائق، وحكايات المعاني، وكلّ ما يركّبه المتخيّلة من الصّور الخياليّة يشاهده بوجهه الدّاخلي، ثمّ يحفظ ذلك المركّب الخيال الّذي هو خزانته كما كان حافظاً للبسائط.

وإذا كان مدركات الحسّ المشترك من الدّاخل قويّاً، كان شهوداً؛ لأنّه إذا وصل المدرك إليه كان مشاهدة، ولا فرق في الوصول أنّه صعد إليه أو نزل، وأنّه تجرّد الطبائع أو تمثّل الحقائق.

يتبع…

___________________

([1]) خبر المبتدأ «عدُّ».

([2]) أيّدته الأذواق، وساعده البرهان، وهو أنّ الوجود حقيقة واحدة بسيطةٌ ذات درجات متفاضلة، لا اختلاف بين مراتبها إلّا بالكمال والنّقص الخاصّين، وليست حقائق متباينة؛ إذ لا تفاوت بالفصول؛ إذ لا تركيب في الوجود، ولا عوارض غريبة؛ لأن تشخّص الوجود بذاته وما به الامتياز فيه عين ما به الاشتراك؛ فهو سنخ واحد، كنوع واحد، وأصل محفوظ فارد في المراتب، فكلّ الآثار التي في المراتب أثرُ ذلك الأصل، فلا مؤثّر في الوجود إلّا الله. منه.

([3]) الأسماء والصفات 2: 141، التوحيد (محمد بن إسحاق بن خزيمة) 1: 161، معارج القبول 1: 352.

([4]) المقنعة: 412. مصباح المتهجد: 228.

([5]) آل عمران: 6.

([6])  الزمر: 42.

([7]) البقرة: 282.

([8]) الجمعة: 2.

([9]) مصباح المتهجد: 849.

([10]) المدثر: 31.

([11]) السجدة: 11.

([12]) النجم: 5.

([13]) الكافي 1: 183 / 7. بصائر الدرجات: 26، وفيهما: «أبى الله أن يجري الأشياء إلاّ بالأسباب».

([14]) كذا بجمع تمييز العدد مئة، فالأولى مثلاً أن يقال: مئة شعور، أو مشعر كما استعمله بعدُ.

([15]) كذا، والأولى كونها: الذي إلّا مع تقدير: حاسّة.

([16]) كذا، والأولى كونها: الذي إلّا مع تقدير: حاسّة.

([17]) إن قلتّ: إذا كان البصر التي هناك سمعاً، فلا يكون هناك سمعٌ اُخرى ولا شمّ اُخرى، وكذا في الباقي.

قلتُ: ليس كذلك؛ لأنّ الإنسان المثالي أصل الإنسان الطبيعيّ، والطبيعي تام الخلقة وعلى أحسن تقويم؛ فالمثاليّ أتم وأقوم، ففيه تمام الأعضاء كالعين والأُذن وغيرهما، وكذلك بحسبها تتعدّد القوى «وفي قوّة كل جارحة كلّ العشر انطوى»؛ لأنّ ذلك العالم أتمّ وحدة وجمعيّة من عالمنا هذا. منه.

([18]) إذ من أتميّة عالم العقل لا صحة سلب لفعليّة شيء من عوالم دونه، ففيه كلّ العشرة؛ ففي عينه فعليّة الأعين؛ وفي أذنه فعليّة الآذان، وله علم حضوريّ بكلّ المبصرات، ففي بصره كلّ الأبصار؛ وله علم حضوريّ بكل المسموعات، ففي سمعه كلّ الأسماع، وهكذا. فإذا كان بمقتضى تطابق العوالم في عالم العقل المشاعر العشرة، وفي كلّ منها المئة المثاليّة، كانت ألفاً، ومع كونها ألفاً واحدٌ بسيط؛ لكونه عالم الجمع، والوجود واحدٌ، والمفاهيمُ الصادقّة كثيرة بلا صحّة سلب. منه.

([19]) وإن شئت عبر عن هذه الأربعة: بالخطرة، والتعلّق، والتخلّق، والتحقّق؛ فتنخرط إما في اُولئك؛ وإمّا في هؤلاء. ويناسبه ما قيل:

هر ندائى كو ترا بالا كشد
هر ندايى كو ترا حرص آورد

 

آن ندا مى دان كه از بالا رسد
بانگ غوليد ان كه او مردم درد

منه.

الكاتب الملا هادي السبزواري

الملا هادي السبزواري

مواضيع متعلقة