شرح دعاء الصباح 29

img

وسُكّان الجبروت عكوسٌ بعلومهم وعصمتهم وطهارتهم له بعلمه وعصمته، وقُطّان الملكوت بقدرتهم عكوسٌ له بقدرته، فإنّه يد الله، وحُرّاس السّماوات ونَيِّراتها بديمومتهم ورفعتهم وتربيتهم عكوسٌ له بديمومة نوره الّذي هو أوّل ما خلق، ورفعه منزلته التي جاء فيها: «لولاك لما خلقت الأفلاك»، وتربيته التي كان بحسبها نبيّاً وآدم بين الماء والطّين، ومنها لُقِّبَ بـ«رحمة للعالمين»، و«جلّاسُ محفل النبوّة» و«نادِي الرّسالة». وصدر اُولي العزميّة في نشأة النّاسوت عكوسٌ له بنبوّته ورسالته، واُولي عزميّته وختميّته فيها([1])، وهكذا حيوان عالم الكيان من النّاسوت، ومَن في درجته ونباته ومعدنه إلى بسائطه كلّها عكوسُ مقامات بشريّته (صلوات الله وتسليماته وبركاته عليه وآله).

قوله×: «وَهِيَ ذاتُ الْعُلْيا» ـ هكذا في نسخ رَأينا ـ وهو من باب حذف الموصوف، أي صاحبة المنزلة العليا، أو صاحبة صفات الله العليا في مقام التخلّق بها. «وشجرة طوبى» هي باعتبار اتّصالها بالحقيقة العقليّة الّتي هي كثيرة التجليّات، والعقول كلّها كأغصانه، والنفوس السعيدة كأوراقه وأزهاره.

و«سِدرة المنتهى» هي باعتبار اتّصالها بالّلاهوت، فإنّ «سدرة المنتهى» في لسان العرفاء الكاملين هي البرزخيّة الكبرى الّتي ينتهى إليها مسير الكُمَّل، وأعمالهم وعلومهم، وهي نهاية المراتب الأسمائيّة الّتي لا تعلوها رتبة.

و«جنّة المأوى» أي جنّة الصّفات الّتي هي التجليّات الأسمائيّة والتخلّقات الصّفاتية، «من عرفها لم يشقَ» إلى آخره، قد مرّ وجُه ذلك في بيان ربط الحادث بالقديم، والصلاة على وجه النبيّ الكريم.

«محيط بالأشياء»، قد يطلق العقل الكّلي وعقل الكلّ ويراد: جملة العقول الطوليّة والعرضيّة، بل أصلها العقليّ المحفوظ فيها كأنّها فروعه وتجليّاته، وقد يطلق على العقل الأوّل الّذي بإزاء النّفس الّتي للفلك الأقصى الّذي قد يقال له: جسم الكلّ. وقس عليه إطلاقَي النّفس الكلّية، ونفسِ الكلّ. وعلى أيّ التّقديرين، فإحاطة العقل الكلّي بجميع العقول، وجميع النفوس، بل بجميع الأشياء مبرهنة؛ لأنّه جامع فعليّات الأشياء([2]) من حيث هي فعليّات، وموضع بسطه الكتبُ العقليّة الحكميّة.

هذا أنموذج من كتاب النّفس، وأمّا الشّيطان، فهو عند المتكلّمين: جسم لطيف شرير، قادر على التشكّل بأشكال مختلفة، كأصله الّذي هو الجنّ أو الملك على الاختلاف. والثّلاثة ـ مع جسميّتهم عند أكثرهم ـ أنواعٌ متخالفة. وعند المُعتزلة على ما نقل المحقّق الطوسي+ عنهم في (نقد المحصّل): «كلّهم نوعٌ واحد، وتخالفهم بالأفعال؛ فالّذين لا يفعلون إلّا الخير فهم الملائكة، والّذين لا يفعلون إلّا الشرّ فهم الشّياطين، والّذين يفعلون تارة هذا وتارة ذاك، فهم الجنّ؛ ولذلك عدّ إبليس تارةً في الملائكة، وتارةً في الجنّ»([3]).

وقال العلّامة التّفتازاني في (شرح المقاصد): «والقائلون من الفلاسفة بالجنّ والشّياطين، زعموا أنّ الجنّ جواهر مجرّدة لها تصرّف وتأثير في عالم الأجسام العنصريّة من غير تعلّق بها تعلّقَ النّفوس البشريّة بأبدانها، والشّياطين هي القوى المتخيلّة في أفراد الإنسان من حيث استيلائها على القوّة العقلية، وصَرفها عن جانب القدس، واكتساب الكمالات العقليّة إلى اتّباع الشّهوات واللّذات الحسيّة والوهميّة. ومنهم من زعم أنّ النّفوس البشريّة بعد مفارقتها عن الأبدان، وقطع العلاقة منها، إن كانت خيرة مطيعة للدّواعي العقليّة فهم الجنّ، وإن كانت شريرة باعثة على الشرّور والقبائح، مُعينة على الضّلالة والانهماك في الغواية، فهم الشياطين.

وبالجملة، فالقول بوجود الملائكة والجنّ والشياطين ممّا انعقد عليه إجماع الآراء، ونطق به كلام الله تعالى، وكلام الأنبياء^. وحُكي مشاهدة الجنّ عن كثير من العقلاء، وأرباب المكاشفات من الأولياء؛ فلا وجه لإنكاره، كما لا سبيل إلى إثباته بالأدلّة العقليّة»([4]) انتهى.

وقال المحقّق عبد الرزّاق اللّاهيجي بعد نقل هذا الكلام في بعض كتبه الفارسيّة: «المغايرة بين قولَي الحكماء في كلامه باعتبار القول بالشّياطين، لا القول بالجنّ ([5]).

أقولُ: ليس كذلك؛ لأنّ الجنّ على كلا القولَيْن وإن كانت جواهر مجرّدة، لكنّها في الأوّل مجرّدة من رأس، وفي الثّاني مجرّدة كالنّفس متعلّقة، وإذا قطع تعلّقها فتجرّدها تجردّ بعد التعلّق([6]). وأيضاً، في الأوّل مخالفة بالنّوع للنّفس الإنسانيّة بخلافها في الثّاني.

ثمّ إنّ الحقّ في المَلَك ما في (القبسات) للسيّد المحقّق الدّاماد([7])، قال: «الحقّ ما عليه الحكماءُ الإلهيّون من شركاء الصّناعة، والمَهَرَةُ المحصّلون من علماء الإسلام أنّ الملائكة شعُوبٌ وضُروبٌ، وقبائل وطبقات روحانيّة وهيولانيّة، وقدسانيّة وجسمانيّة، وعلويّة وسفليّة، وسماويّة وأرضيّة؛ فالأعلى طبقةً: الّذين طعامُهم التّسبيح، وشرابُهم التقديس، الرّوحانيّون الكرّوبيّون من الجواهر العقليّة بطبقات أنواعها وأنوارها. ومنهم روحُ القدس النازل بأنوار الوحي، والنّافث في أرواع اُولي القوّة القدسيّة بإذن الله تعالى؛ والنّفوسِ النّاطقة المفارقة السّماويّة، ثمّ النفوسُ المنطبعة السّماويّة والقوى الدرّاكة والفعّالة، والصّور الطبيعيّة النوعيّة والطبائع الجوهريّة، وأرباب الأنواع للمركّبات العنصريّة. وإنّ لكلّ جرم سماويّ، بل لكلّ درجة فلكيّة، وكذلك طبيعة اُسطقسيّة، ملكاً روحانيّاً متوليّاً للتّدبير، وقائماً بالأمر. ويقول القرآن الحكيم: ﴿وَما يَعلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلّا هُوَ([8])، وفي الحديث عنه|: «أطَّتِ السَّماءُ، وَحَقٌ لَها أن تئطَّ؛ ما فيها مَوضعُ قَدَم إلّا وَفيهِ مَلَكٌ ساجِدٌ وراكعٌ»»([9]) انتهى.

يتبع…

_____________

([1]) هذه الختميّة فسيحة جدّاً، وليست بحسب السّلسلة الطّولية نزولاً وصعوداً فقط؛ حيث نذكر أنّه العقل الكلّي الذي هو جامع فعليّات جميع ما دونه، بل بحسب السّلسلة العرضيّة أيضاً، فإنّة إذا كان الحقيقة المحمدّيّة هي الوجود المنبسط الذي هو الرّحمة الواسعة كما أنه| ملقّب بـ«رحمة للعالمين»، كان نوره لكليّته وسعته شاملاً للماضين والغابرين من الأنبياء والمرسلين، والأولياء الوارثين من أُمّته المرحومة، كما قال|: «آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة»[عوالي اللآلي 4: 41/198، بحار الأنوار 16: 402/1]، فدولته الحقّة الكريمة باقية لا تزول، فكل من يجيء بعده من شيعته وأشّعته؛ لكليّته، وكونه رحمة الله الواسعة، كما أنّ من شيعته ـ عليٍّ الذي هوحسنة من حسنات المرسلين ـ لَإبراهيم. منه.

([2]) كما أنّ الهيولى الأُولى التي أثبتها المشّاؤون من الحكماء جامعةٌ لكلّ القوى الانفعاليّة، والاستعدادات والظّلمات، بحيث إنّ كلّ قوّة في كلّ مادّة من شعبها، هذا من الضّعف والسّخافة، وفي العقل من الشّدة والتماميّة. منه.

([3]) نقد المحصل(تلخيص المحصل): 230.

([4]) شرح المقاصد  3: 366.

([5]) شرح الأسماء الحسنى 2: 51.

([6]) أي بالأبدان الطبيعيّة، ويجوز أن يجتمع مع التعلّق بالفعل بالأبدان المثاليّة عمّن يقول منهم بـ«عالم المثال». منه.

([7]) القبسات/القبس التاسع: 401.

([8]) المدثر: 31.

([9]) حلية الأولياء 6: 269.

الكاتب الملا هادي السبزواري

الملا هادي السبزواري

مواضيع متعلقة