شرح دعاء الصباح 26

img

﴿وإنْ خَذَلَني نُصرُك عِندَ مُحارَبَةِ النّفس وَالشّيطانِ، فَقَد وَكَلَني خِذلانك إلى حَيْثُ النصبِ والحِرْمانِ﴾

«الخِذْلانُ»: خلاف التوفيق، وإضافة «المحاربة» إلى «النّفس» و«الشّيطان» من إضافة المصدر إلى المفعول، أي محاربتي إيّاهما. «فقد وكلني» إلى آخره: أي فقد طرحني إلى مكان التّعب والحرمان. و«النّفس» تطلق على ذات الشيء، وتطلق على كمال أوّلَ لجسمٍ طبيعيّ آليٍّ، فتنقسم إلى نفس سماويّة وأرضيّة، والأرضية إلى نفس نباتيّة وحيوانية وإنسانية، فتقابل الصّورة النوعيّة المعدنيّة والطّبيعية. وتطلق على جوهر مجرّد في ذاته دون فعله عن المادّة، فتقابل العقل المفارق في ذاته وفعله عن المادة، وتطلق في اصطلاح العارفين على واحدة من «اللطائف السّبع» من الإنسان، المتداولة عندهم، وهي الأبطن السبعة لهذه الآية الكبرى؛ من الطبع، والنّفس([1])، والقلب، والرّوح، والسرّ، والخفيّ، والأخفى.

وفسّروها بالرّوح البخاري الحيوانيّ المتداول في لسان الحكيم. والسّبب فيه أنّ رَحى الشهوة والغضب، والفرح والغم، والخوف والرجاء، ونحوها يدور على ذلك الروح البخاري، وزيادته ونقصانه، وتكدّره وإشراقه، فتقابل اللّطائف الاُخر، وتقابل العقل العملي، فيقال: هذا مقتضى النّفس، وذاك مقتضى العقل. وهذا يسير في منازل النّفس، وذاك يسير في منازل القلب.

وقد مرّ في «الفتح» ما يوافقه. وتطلق عندهم تأسيّاً بكتاب الله وسنّة نبيّه على «النّفس الأمّارة» و«اللّوامة»، فتقابل «النّفسَ» «المُلهمة» و«المُطمئنّة» والعقلَ بقسمَيْهِ: النظري والعملي. والنّفسُ الناطقة في اصطلاح الحكيم تطلق على جميع «اللّطائف([2]) السّبع» المذكورة.

إذا عرفت هذا، فالنّفس في قول الدّاعي: «عند محاربة النّفس والشيطان» يراد بها المعنى الأخير.

وفي حديث كميل، عن عليّ× أقسام النّفس ببعض المعاني المذكورة([3])، نذكره تيمّناً، قال: سألتُ مولانا أمير المؤمنين عليّاً (صلوات الله عليه) فَقُلتُ: اُريدُ أن تُعَرّفَني نَفْسي. قال×: «يا كُمَيلُ، وَأيّ الأنفُس تُريدُ أن اُعَرِّفَكَ؟». قلتُ: يا مولاي، هل هي إلّا نفس واحدة؟ قال×: «يا كُمَيلُ، إنَّما هِيَ أربَعَةٌ: النّامِيةُ النَّباتيّةُ، وَالحِسّيَةُ الحَيوانيّةُ، وَالنّاطِقَةُ القُدْسِيَّةُ، والكُلِيّةُ الإلهيّةُ. وَلِكُلٍّ مِن هذِهِ خَمسُ قُوى، وَخاصِيَّتانِ:

فالنّامِيَةُ النَّباتَّيةُ([4]) لَها خمس قُوى: جاذَبةٌ، وَماسِكَةٌ، وَهاضِمَةٌ، وَدافِعَةٌ، ومُربِّيةٌ. وَلَها خاصِيتَّانِ: الزّيادَةُ والنُّقصانُ، وانْبِعاثُها مِنَ الكَبدِ.

والحسِّيَّةُ الحَيوانيّةُ لها خَمسُ قُوى: سَمعٌ، وَبَصَرٌ، وَشَمٌّ، وَذَوقٌ، وَلَمسٌ. وَلها خاصِيَّتانِ: الشَّهْوِةُ والغَضَبُ، وانبعاثها مِنَ القَلْبِ.

والنّاطِقَةُ القُدسيّة لَها خَمسُ قُوى: فِكرٌ، وَذِكْرٌ، وعِلْمٌ، وحِلْمٌ، وَنَباهَةٌ، ولَيسَ لَها انبعاثٌ وَهِيَ أشبَهُ الأشياء بالنُّفُوسِ المَلَكيّةِ. وَلَها خاصيّتان: النَّزاهَةُ والحِكمَة.

والكُليِّةُ الإلهيَّةُ لَها خُمسُ قُوى: بقاء في فناء، ونَعيمٌ في شِقاء، وَعِزٌّ في ذُل، وَغِنيً في فقر، وَصَبرٌ في بَلاء. وَلَها خاصِيتّان: الرّضا والتَّسليمُ([5]). وَهذِهِ الَّتي مَبدَؤها مِنَ الله، وَإليَهِ تَعُودُ. قالَ الله تَعالى: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾([6])، وقالَ تعالى: ﴿يَا أيَّتُهَا النَّفْسُ المُطمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى ربِّك رَاضيَةً مَرْضِيَّةً﴾([7]). والعقلُ وَسَطُ الكُلّ»([8]).

قوله×: «مربيّة»، هي القوّة المنمية. وقوله×: «وانبعاثها من القلب»، أي أوّلاً وبالّذات. وهذا لا يدفع قول الحكيم وتسميته إيّاها قوى دِماغيّة؛ لأنّ الرّوح البخاري ينبعث من التجويف الأيسر من القلب أوّلاً، ثمّ يصعد في مَسلك بعض الشَّرايين إلى الدِّماغ، فيبرد بالتردّد في تجاويفه، فيعتدلُ ويصيرُ مطايا القوى الدّماغيّة.

ولعلّ «الفكر»، و«الذّكر»، و«العلم» متعلّقة بالعقل النظري المسمّى بالقوّة العلامة للنّاطقة، فتكون إشارة([9]) إلى العقل بالملكة، والعقل بالفعل، والعقل المستفاد. و«الحلم» و«النّباهة» متعلّقان بالعقل العملي المسمّى بالقوة العمّالة للناطقة، فتكون إحداهما «الحال»، و[الاُخرى]([10]) «الملكة» في العمل الصالح. ومناسبة «الحلم» إنّما هي مع «الملكة» باعتبار الثبات والاستقامة والطاقة للعامل. وأمّا «الحدس» فيليق بالنّفس الرّابعة؛ لأنّ الاحكام تابعة للعنصر الغالب، والحدس فيها غالبة لا في الثالثة. ويمكن أن يكون «النباهة» إشارةً إلى الحدس المغلوب للفكر في الثالثة.

و«النّزاهة» هي الحرّية الّتي يقال في النّفس الشّريفة: هي الّتي فيها «الحكمة» و«الحريّة». وقوله× في «الكليّة الإلهيّة»: «بقاء في فناء» ـ إلى آخره، يمكن أن يكون «في» للتّعليل، ولا يخفى وجهه، وأن يكون للظرفيّة، من قبيل كون الباطن في الظّاهر، والرّوح في الجسد. ومن أمثال العرفاء: «إذا جاوز الشّـيء حدّه انعكس ضدّه».

يتبع…

________________________________

([1]) وقد يحذف الطّبع ويضاف العقل بعد القلب. ويقال: إنّ العقل لسان الرّوح، وترجمانه الدالّ عليه. وقد مرّ في الحاشية السابقة على «الفتح» وأقسامه تعاريف النفس والقلب والرّوح. وقد يجعل النفس أمّاً والرّوح أباً، والقلب ولداً. فمن القلب ما هو ميالٌ الى الأمّ وهو القلب المنكوس، ومنه ما هو متخلّق بأخلاق الأب مترقٍّ إليه، ومنه ما هو متردّد بينهما إلى ما شاء الله.

وفي بعض وجوه تأويل آية النّور: جعل النفس مشكاةً، والقلب زجاجةً وكوكباً درّيّاً، والروح مصباحاً. وبلسان الحكيم: القلبُ هو العقلُ التفصيليّ، والرّوحُ هو العقل البسيط الإجماليّ.

وأمّا اللّطائف الثلاث الأُخر، «فالسّر» هو الاتّصال بالعقل الفعّال، و«الخفيّ» هو الاتّصال بعقل الكلّ بمعنى جملة العقول الكليّة، و«الأخفى» ـ وهو مقام الحقيقة المحمديّة ـ هو الاتّصال بالفيض المقدّس، والوجود المنبسط، ومرتبة المشيئة في الطمّس الصّرف، والمحق المحض بالفناء البحت. منه.

([2]) باعتبار التعلّق الباطني، أو الظاهري. منه.

([3]) أي النّفس بمعنى كمال أوّل لجسم طبيعيّ آليّ. منه.

([4]) عدم التعرّض للغاذية بظاهره يكون شاهداً لمن لا يجعلها مغايرةً للهاضمة كما هو قول بعض الأطبّاء. والمحققّون ذهبوا إلى المغايرة كما تقرّر. لكنّي أقول: أدرجها× في «المربّية» فتشمل الغاذية والمنمّية، ومعلوم أن التنمية فرع التّغذية، أو في النفس النباتيّة التي هذه الخمس قواها، كما أدرج× فيها «المولَّدة». وأمّا المصوّرة التي جعلت من رؤساء القوى النباتية، فالحقّ عند المحقّقين إنتفاؤها لبطلان إسناد الأفعال العجبية المتقنة إلى قوّة عديمة الشّعور كما أبطلها «الغزالي» و«المحقق الطوسي»+­­­ العزيز. منه.

([5]) هذا الرّضا بقرينة إردافه بالتسليم، غير الرّضا المذكور في خاصّيتي الحسيّة الحيوانيّة؛ لأنّ هذا هو الرضا الذي قالوا فيه: «الرّضا باب الله الأعظم». وهو مقام شامخ، وذلك هو الرّضا بالجزئيات الدائرة، ويساوق الشهوة الحيوانية. والقرينة إردافه بالغضب. منه.

([6]) الحجر: 29.

([7]) الفجر: 27 ـ 28.

([8]) مجمع البحرين 4: 349، الفوائد الرضوية: 121، 125.

([9]) أي الفكر إشارة إلى العقل بالملكة؛ إذ فيه البديهيات التي ينتقل منها إلى النظريات بالفكر. و«الذّكر» إشارة إلى العقل بالفعل؛ إذ فيه ملكة فعّالة للمعقولات بلا تجشّم كسب جديد. فهذه الملكة ذاكرة وذكر حكيم. و«العلم» إشارة إلى العقل المستفاد؛ لأنّه علم حقيقيّ، ومشاهدة للحقائق. منه.

([10]) في النسخة الحجرية: الآخر.

الكاتب الملا هادي السبزواري

الملا هادي السبزواري

مواضيع متعلقة