حول الإنسان (17)

img

ومع كلِّ ذلك فقد حصل من يقول: إن هناك آيات وروايات تدلّ على أن الإنسان يعاد بنفس مادّته، ومنها: قوله تعالى: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ([1]).

فإن الآية الكريمة تقول: إنه جلّ وعلا يحييها هي لا غيرها. وتقول الآيات الكثيرة: إنه جلّ وعلا يخرجها من قبورها، ولو أنه سبحانه يخلقها من غيرها لم تكن حاجة إلى بعثرة القبور، وهل جلّ وعلا يقول: ﴿وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ([2]).

وقوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ([3])، وغيرها وغيرها ومن أصرحها قوله تعالى ﴿وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ([4]).

قالوا: ولو سلّمنا أن النعيم والجحيم على الروح فقط، وأن الجسم لا عبرة به كما يقولون، فإن الاعتبار لا يساعدنا على ذلك؛ فإنك لو نقلت خشبةً من مسجد مثلاً ثم وضعتها في الكنيف أو بالعكس، فإنك في الفرض الأول تكون قد أهنت الخشبة، وفي الثاني تكون قد أكرمتها وإن كانت الخشبة لا تحسّ بتلك الإهانة أو تلك الكرامة. ولكن المسألة تبقى اعتبارية، فكيف إذا كان ظاهر بعض الآيات وبعض الروايات يدلّ على ذلك؟ والله أعلم بحقائق الاُمور.

ونعود إلى الموضوع فنقول: وفي مقابل الذين حرموا على أنفسهم أكل اللحوم جاء أقوام تأكل من الحيوانات كلّ ما دبّ ودرج حتى الحشرات والدوابّ. وجاء الإسلام بسماحته ومرونته يحلّ لأهله الطيبات ويُحرّم عليهم الخبائث، فقسم الحيوانات إلى ثلاثة أقسام:

1ـ الحيوانات الأهليّة.

2ـ الحيوانات البحريّة.

3ـ الحيوانات البريّة.

فأحلّ الإسلام لأهله الحيوانات البريّة بما فيها الطير وغيره، بضوابط شرعيّة معقولة، وقواعد فقهيّة مقبولة إلّا في حالة الإحرام للحج أو العمرة، فقال تعالى: ﴿وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا([5])، وقال: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ([6]).

وتعدّ لحوم الطير من أفضل اللحوم المأكولة في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ([7]). روى صاحب كتاب (فضائل الخمسة من الصحاح الستة) بطرقٍ عدّة عن أنس بن مالك قال: اُهدي إلى النبي| طائرٌ مشوي على رغيفة بيضاء، فقال|: «اللهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر».

قال أنس: فجاء علي× فرددته، ثم جاء فرددته، ولم يدخل إلّا في الثالثة أو في الرابعة، فلمّا نظر إليه النبي| قال: «اللهم وإليّ، اللهم وإليّ، اللهم وإليّ». ثم قال: «ما أبطأ بك عني يا علي؟». فقال×: «جئت فردّني أنس، ثم جئت فردّني أنس». فقال|: «ما حملك على ما صنعت يا أنس؟». فقال: أحببت أن يكون رجلاً من قومي. فقال|: «إنّ الرجل قد يحبّ قومه»([8]).

وأحلّ لنا الحيوانات البحريّة إلّا ما؛ استثناه بعلامات التحريم حتى في الإحرام، فقال تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ([9])، وقال: ﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا([10]).

وأحلّ لنا الحيوانات الأهليّة حتى في الإحرام أيضاً، ولكن بضوابط شرعيّة معقولة وقواعد فقهيّة مقبولة كما تقدم، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ([11]). وبهيمة الأنعام هي الإبل والبقر والغنم.

والذي استثناه جلّ وعلا منها بقوله: ﴿إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ هو ما جاء في قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾، وهي التي تموت بغير تذكية شرعيّة.

و﴿الدَّمُ﴾ ويعني به الدم المسفوح وليس المتخلّف في لحم الذبيحة.

و﴿وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ﴾ وهو الذي يذبح باسم غير الله كهبل واللّات والعزّى التي كانت قريش تذبح بأسمائها.

و﴿الْمُنْخَنِقَةُ﴾ وهي التي تخنق حتى تموت.

و﴿الْمَوْقُوذَةُ﴾ وهي التي تضرب حتى تموت.

و﴿الْمُتَرَدِّيَةُ﴾ وهي التي تسقط من شاهق فتموت.

و﴿النَّطِيحَةُ﴾ وهي التي تنطحها بهيمة اُخرى فتقتلها.

و﴿وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ﴾ وهي ما افترسها حيوان من الحيوانات المفترسة ﴿إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ أي إلّا ما أدركتموه منها حيّاً فذكّيتموه قبل أن يقتله الحيوان المفترس.

و﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ([12])، وهو ما ذبح على الحجارة التي تذبح لها وعليها قريش وغيرهم من أهل الجاهلية ذبائحهم، ثم يغرونها بدمها، ويسألونها قضاء حوائجهم.

فهذه عشرة أنواع من الأنعام محرّمة لتلك الأسباب المذكورة.

وجاء في سورة الأنعام: ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ([13]) وهي التي لم يذكر اسم الله على ذبحها وإن كان لم يذكر عليها اسم غيره جلّ وعلا. فهذه أحد عشر نوعاً من الأنعام حرّمها الله سبحانه لتلك الأسباب، وما عداها فهو مباح لعباده.

وقد بلغ منه جلّ وعلا في إباحتها لنا أن أقواماً قبل الإسلام كانوا يمتنعون من أكل نسائكهم ـ أي من أكل الهدي في الحج وما شابهه ـ فرفع الله سبحانه ذلك الحرج من أكلها بقوله تعالى: ﴿فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ([14])، وقال تعالى: ﴿فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ([15]). ولذلك صار الأكل من الهدي عند فقهاء المسلمين مباحاً إذا لم يكن واجباً أو مستحبّاً.

وأمرت السنّة المطهرة بالذبح في مناسبات كثيرة علاوة على ما جاء في القرآن الكريم من الهدي وغيره، ومن تلك المناسبات مناسبة الاُضحية في عيد الأضحى، والعقيقة في يوم سابع المولود أو غيره، ووليمة الزواج التي جاء فيها الحديث الشريف: «إذا تزوّجتم فأولموا، واذبحوا ولو شاة واحدة؛ فإنّ الله يجعل فيها الخير والبركة».

وقد قال بعضهم: إن الأسباب التي أعطت الإمام الحسن× الشهرة بالكرم كثرة ولائمه للناس لكثرة تزويجه بالنساء. (فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً؟).

____________________________

([1]) يس: 78 ـ 79.

([2]) الإنفطار: 4.

([3]) العاديات: 9.

([4]) الحج: 7.

([5]) المائدة: 96.

([6]) المائدة: 2.

([7]) الواقعة: 21.

([8]) فضائل الخمسة 2: 189.

([9]) المائدة: 96.

([10]) النحل: 14.

([11]) المائدة: 1.

([12]) المائدة: 3.

([13]) الأنعام: 121.

([14]) الحج: 28.

([15]) الحج: 36.

الكاتب الشيخ عبد الحميد المرهون

الشيخ عبد الحميد المرهون

مواضيع متعلقة