حول الإنسان (12)

img

النطفة

قال تعالى:

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾([1]).

النطفة: الماء القليل. والأمشاج: جمع مشيج بمعنى المختلط، إشارة إلى المواد الكثيرة التي تركبت منها النطفة.

فالنطفة هي السائل المنوي الذي يفرزه الإنسان والحيوان بعد بلوغه، ليخرج منه ما كتب الله له من البنين والبنات وقد ذكرها الله جل وعلا في كتابه المجيد اثني عشر مرة منها قوله تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى([2]).

وقال تعالى: ﴿وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى * مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى([3])إلى غير ذلك من الآيات.

فالإنسان بنوعيه وبجميع فصائله مخلوق من هذه النطفة حتى الأنبياء والمرسلون^ والأولياء والصديقون. ورحم الله العباس بن عبد المطلب، فقد مدح ابن أخيه الرسول محمداً| فقال:

من قبلها طِبْت في الظلال وفي
ثم هبطت البلاد لا بشر
بل نطفة تركب السفين وقد
دخلت نار الخليل مستتراً
وأنت لما ولدت أشرقت الـ
ونحن في ذلك الضياء وفي الـ

مستودع حيث يخصف الورقُ
أنت ولا مضغة ولا علقُ
ألجم نسراً وقومه الغرقُ
في صلبه أنت كيف يحترقُ
أرض وضاءت بنورك الاُفقُ
ـنور وسبل الرشاد نخترقُ

فدعا له النبي| بخير، وقال: «لا يفضّ الله فاك يا عمّ»([4]).

وورد في (الزيارة الجامعة) لأهل البيت^: «لم تزالوا بعين الله ينسخكم من أصلاب كلّ مطهر، وينقلكم من أرحام المطهرات، لم تدنّسكم الجاهلية الجهلاء، ولم تشرك فيكم فتن الأهواء، طبتم وطاب منبتكم، منّ بكم علينا ديّان الدين»([5]).

فما أعظم فضل هذه النطفة على من عرف قدرها وصان كرامتها! ولذلك فقد امتنّ الله سبحانه وتعالى بها على عباده، فقال: ﴿أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ([6]).

والمني: هو سائل أبيض مائل إلى الصفرة غالباً، على شكل مطبوخ النشا أو بياض البيض.

قال صاحب كتاب (حلّال المشاكل): روى الكليني([7]) والشيخ([8])» بسندهما عن الإمام الصادق× أن امرأة هويت رجلاً من الأنصار ودعته إلى نفسها فأبى، فلمّا لم تقدر عليه بحال أخذت بياض بيضة فألقته على ثيابها وفخذيها، ثم جاءت إلى الخليفة عمر، فقالت: إن فلاناً قد أخذني إلى مكان كذا وعمل بي ما عمل، وأرته البياض على ثيابها. فهم الخليفة أن يعاقبه، فجعل الرجل يحلف على براءته ويقول: تثبّت في أمري فإني مظلوم، وأنها هي التي أرادتني، فلما أبيت عليها فعلت ما فعلت وقالت ما قالت.

فقال الخليفة لعلي× ما ترى يا أبا الحسن؟ فقال×: «ايتوني بماء حارّ قد غلي». فجاؤوه به فصبوه على ذلك البياض الذي على ثيابها، فانشوى وتجمّد، فأخذ منه× فوضعه في فيه فعرفه، فأقبل على المرأة يعنفها حتّى أقرت، ودفع الله عن ذلك الرجل.

قالوا: ويتكون المني من الدم، ويتكوّن الدم من المادة اللبنية الناتجة من الكيلوس، ومادة الكيلوس متكوّنة من الطعام والشراب.

وأهم عناصر المني الحيوانات المنوية التي عبر عنها العلم الحديث باسم الحويمنات، وعبّر عنها القرآن باسم العلق، قال تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ([9]).

ويتراوح عدد هذا العلق في النطفة التي يفرزها الإنسان عند المقاربة أو ما شابهها من مليوني علقة إلى خمسة ملايين، والواحدة منها عبارة عن خلية صغيرة([10]) تتحرك بواسطة أهداب دقيقة، وطول الواحد منها ما يقارب جزءاً من عشرين جزءاً من المليمتر، ولكل واحد منها رأس بيضوي ورقبة وجسم مفرطح وذنب، وعلى رأسه البيضوي الشكل جزء محدد يشبه الرمح أو السكين يطعن به بويضة الاُنثى، فينفذ في أعماقها ويبقى ذنبه في الخارج فتنكمش عليه البويضة، وتتقلّص حتى تقطع الذنب، ويمتزج الحويمن بنواة البويضة فيلقّحها، ويتكون منهما الجنين بقدرة الخالق القدير، جلّ ربي وعلا. وقد ذكروا أن هذا الحويمن يحمل القابلية على الحياة والقدرة على التلقيح لمدة ثمانية وأربعين ساعة بعد خروجه من صلب الرجل إذا حصل على محل قلوي قاعدي، وتحت حرارة سبع وثلاثين درجة كمجرى البول.

وقد أخبر عن ذلك أميرالمؤمنين× قبل أن يكتشفه العلم بما يزيد على ثلاثة عشر قرناً، فقد روي في الكتب المعتبرة أنه× جاء إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين كنت أعزل عن امرأتي وقد جاءت لي بولد، فقال له الإمام: «ناشدتك الله هل وطئتها ثم عاودتها مرة ثانية، قبل أن يخرج منك البول؟». فقال: نعم. قال: «فالولد منك»([11]).

قالوا: والسرّ في ذلك أنه× علم أن علقة من النطفة تخلفت في مجرى البول، فلما عاود الجماع تحركت بسبب الجماع ونزلت في رحم المرأة فألقحت بويضتها؛ لأنها لا زالت تحتفظ بحياتها وقابليتها على التلقيح؛ وذلك لأن مجرى البول يلائم حياتها.

يتبع…

____________________________

([1]) الدهر: 2.

([2]) القيامة: 36 ـ 37.

([3]) النجم: 45 ـ 46.

([4]) مناقب آل أبي طالب 1: 27، المعجم الكبير 4: 212.

([5]) مصباح المتهجّد: 714 / 797.

([6]) الواقعة: 58 ـ 59.

([7]) الكافي 7: 422 / 4.

([8]) تهذيب الأحكام 6: 304 / 848.

([9]) العلق: 1 ـ 2.

([10]) علماً أن العلم الحديث يعتبرها نصف خلية، ويرمز لها بالرمز (1س) أو (N-1)؛ لأن فيها نصف عدد الكروموسومات الموجودة في الخليّة الطبيعيّة لجسم الإنسان، أي (23) كروموسوماً فقط. وبتلقيح البويضة التي تعدّ نصف خلية كذلك تصبح البويضة الملقّحة خليّة كاملة. انظر أساسيّات علم الحيوان (د. محمد إسماعيل وآخرون): 61 ـ 62 / ط1.

([11]) شرح الأخبار 2: 325/ 667، مناقب آل أبي طالب 2: 198.

الكاتب الشيخ عبد الحميد المرهون

الشيخ عبد الحميد المرهون

مواضيع متعلقة