حول الإنسان (10)

img

ما بين الطين والنطفة

قال تعالى:

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ﴾([1]).

ذكرت هاتان الآيتان الكريمتان أن الله سبحانه خلق ﴿الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ﴾، يعني من عصارة من طين، ثمّ جعله ﴿نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ﴾، وهو صلب الأب أوّلاً ثم رحم الاُمّ ثانياً. ومما يعرف الجميع أن بين هاتين المرحلتين وسائط ترك القرآن الكريم ذكرها، ولعل ذلك الترك لمعرفة الناس بها من باب ما قال ابن مالك في ألفيّته في النحو:

وترك ما يعلم جائز كما

تقول زيد بعد «من عندكما»([2])

وتلك الوسائط هي أن الإنسان ينتقل من دور الطين، وهو الماء والتراب المتخمّر فيه، إلى دور النباتات والثمار التي يأكلها، قال تعالى: ﴿فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ([3]).

فكلّ ما يتغذّى به الإنسان حتى اللحوم والدهون والألبان فهو من هذه الأشياء السبعة التي عناها رسول الله| بقوله: «خلقتم من سبع ورزقتم من سبع».

ولما سئل ابن عباس& ([4]) عن السبع والسبع التي أرادها رسول الله| بقوله هذا، ذكر أن السبع التي خلقنا منها هي ما ذكره تعالى بقوله: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ([5]).

وأن السبع التي رزقنا منها هي: ما ذكره تعالى بقوله: ﴿فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ([6])، وما بعدها من سورة (عبس) المذكورة فيما تقدّم، وهي:

الحبوب بجميع أنواعها.

والعنب. قالوا: وإنما خصّص العنب بالذكر دون غيره من الفاكهة التي سيأتي ذكرها لما فيه من مواد غذائيّة غنية بالمقوّمات والمقوّيات، حتى قيل عنه بأنه غذاء كامل ([7]).

والقضب وهو كلّ ما يقتضب ـ أي يجزّ ـ بين فترة واُخرى.

والزيتون والنخل. ولا شك أن المراد منهما: الثمر دون الشجر.

والفاكهة. وهي جميع أنواع الفواكه.

والأبّ. وهو جميع ما تنبته الأرض بطبيعتها كالحشائش التي تتغذّى منها الحيوانات، وكالفقع والحنبص والطرثوث وغير ذلك من النباتات الطبيعية التي يأكل منها الإنسان والحيوان، وحتّى البطاطس فإنه كان من النباتات الطبيعية التي لم يكن للإنسان عناية بها، ولم يكتشفه الإنسان إلّا بتاريخ (1785)م، والموافق تقريباً لعام (1200)هـ.

وكان المكتشف له أنطون بان الفرنسي المولود بتاريخ (17/8/1737م) والموافق تقريباً (20/4/1150هـ). وكان قبل أن يكتشفه هذا الفرنسي المذكور يستخدم طعاماً للدوابّ والأنعام، فأصبح بعد ذلك طعاماً مفضّلاً للإنسان.

وقد ورد في كتاب (الدر المنثور في تفسير القرآن بالمأثور) لجلال الدين السيوطي المتوفّى بالقاهرة سنة (910)هـ أن الخليفة أبابكر سئل عن الأبّ: ما هو؟ فقال: أي سماء تظلّني، وأي أرض تقلّني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟([8])

ولما سمع أمير المؤمنين علي × بذلك قال: «يا سبحان الله! أما علم أن الأبّ هو الكلأ والمرعى، وأن قوله تعالى: ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبًّا﴾ اعتداداً من الله تعالى بإنعامه على خلقه فيما غذّاهم به وخلقه لهم ولأنعامهم مما تحيا به أنفسهم، وتقوم به أجسامهم؟»([9]).

وقد ذكر جمع من المفسرين([10]) ومنهم القرطبي([11]) المتوفى بتاريخ (9/10/671)هـ أن الخليفة عمر بن الخطاب قرأ يوماً على المنبر هذه الآيات المباركة، ولما وصل إلى قوله تعالى: ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبًّا﴾ قال: كلّ هذا قد عرفناه، فما (الأبّ)؟ ثم رمى عصاً كانت في يده وقال: هذا لعمر الله هو التكلّف، فما عليك ألّا تدري ما الأبّ، اتّبعوا ما تبيّن لكم هداه من الكتاب فاعملوا به، وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربّه.

قال صاحب (التفسير الأمثل): «وقد اتّخذ كثير من علماء المسلمين السنّة من الحديثين: حديثي أبي بكر وعمر دليلاً على أنه لا ينبغي لأحد أن يتكلم فيما لا يعلم، ولاسيما وعلى الأخصّ في كتاب الله جلّ وعلا»([12]).

وعلى أي حال فإن كلّ ما يأكله الإنسان فهو من هذه السبعة، وهي من الماء والتراب وهو الطين. وبعد أن يأكل منها الإنسان تشتغل عليها قواه الثماني، وهي:

1ـ القوة الماسكة، وهي التي تمسك الطعام والشراب حتى يجري عليه الجهاز الهضمي وظيفته.

2ـ القوّة الجاذبة، وهي التي تجذب الطعام والشراب من جهاز إلى جهاز، فمن الفم إلى المعدة، ومن المعدة إلى الكبد، ومن الكبلد إلى القلب، ومن القلب إلى الرئتين، ومن الرئتين إلى القلب مرّة ثانية، ومن القلب إلى سائر الجسد.

يتبع…

________________________

([1]) المؤمنون: 12 ـ 13.

([2]) شرح ابن عقيل (المتن) 1: 243.

([3]) عبس: 24 ـ 32.

([4]) الجامع لأحكام القرآن 19: 223.

([5]) المؤمنون: 12 ـ 14.

([6]) عبس: 24.

([7]) انظر الغذاء لا الدواء: 68 ـ 72.

([8]) الدر المنثور 6: 317.

([9]) الإرشاد 1: 200.

([10]) تفسير الثعلبي 10: 134، تفسير البغوي 4: 449، التفسير الكبير 29: 96، تفسير أبي السعود 9: 112، تفسير الآلوسي 30: 47.

([11]) الجامع لأحكام القرآن 19: 223.

([12]) التفسير الأمثل 19: 431.

الكاتب الشيخ عبد الحميد المرهون

الشيخ عبد الحميد المرهون

مواضيع متعلقة