حول الإنسان (2)

img

أدوار الإنسان

قال تعالى:

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا﴾([1]).

هذا السؤال وما يماثله من الأسئلة الموجودة في القرآن الكريم وارد إما للتقرير أو للتنبيه؛ لأن السؤال الاستفهامي لا يحصل منه جلّ وعلا ولا يليق به؛ لأنه إنما يحصل ممن لا يعلم لمن يعلم، كما قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ([2]).

وهو جلّ وعلا ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ([3])، فلابد أن يكون هذا السؤال وارداً للتقرير أو للتنبيه.

وجواب الإنسان على هذا السؤال لا بدّ أن يكون بكلمة «نعم»، فقد مضى على الإنسان بكامل نوعه وعلى كلّ إنسان بمفرده ﴿ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا ﴾.

والحين: الزمان، ويقع على القليل والكثير؛ فلا حدّ لأوله ولا حدّ لأكثره وإن كان فقهاء الإمامية قد أفتوا فيمن نذر أن يصوم حيناً من الدهر أن يصوم ستة أشهر([4])، ورووا عن الإمام الصادق× أنه سئل عن رجل قال: لله علي أن أصوم حيناً، وذلك في شكر، فقال×: «قد اُتي علي× بمثل هذا، فقال: صم ستة أشهر، فإن الله تعالى يقول: ﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾([5])  يعني ستة أشهر»([6]).

قالوا: وإنما قال ذلك لأن أغلب الشجر ومنه النخلة تؤتي اُكلها من الرطب بعد نهاية كلّ الرطب بما يقارب ستة أشهر. ويحتمل بعضهم أن يكون هذا العدد المذكور في جوابه× تحديداً لأقل الحين.

وأما أكثره فلا حدّ له؛ فإن مرحلة العدم التي مرت على الإنسان بكامله أو بمفرده لا يعلمها إلّا الله جلّ وعلا.

ثم لما خلق الله الماء من مادّتي الهيدروجين (H) والأوكسجين (O) انتقل الإنسان من مرحلة العدم الكلي إلى مرحلة الوجود المائي، فهي المرحلة الثانية، باعتبار أن مرحلة العدم الكلي هي المرحلة الاُولى. قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً([7]).

وليس الإنسان فقط هو المخلوق من الماء؛ بل وحتى غيره، قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء([8])، بل حتى السماء والأرض؛ فإنه جلّ وعلا خلق الأرض من زبد الماء والسماء من دخانه.

ويقدر علماء الآثار أن هذا الخلق حصل قبل نحوٍ من خمسة عشر مليار سنة، وبهذا الخلق (يعني خلق الأرض من زبد الماء) انتقل الإنسان إلى المرحلة الثالثة وهي مرحلة الوجود الترابي، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ([9]).

ثم عجن التراب بالماء، فحصل منه الطين، وبذلك انتقل الإنسان إلى المرحلة الرابعة، وهي مرحلة الوجود الطيني، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ([10]) ومعنى السلالة: الخلاصة.

ومن هذه المرحلة خلق آدم×، قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ([11]).

وقد ذكر مولانا أمير المؤمنين× في بعض خطبه لمحة من هذا التكوين فقال×: «ثم جمع سبحانه من حزن الأرض وسهلها، وعذبها وسبخها تربة سنَّها ـ أي عجنها ـ بالماء حتى خلصت، ولاطها بالبلة ـ أي وخمرها بالبلة ـ حتى لزبت، فجبل منها صورة ذات أحفاء ووصول ـ أي ذات أضلاع وعروق ـ وأعضاء وفصول، أجمدها حتى استمسكت، وأصلدها حتى صلصلت ـ أي وأصلبها حتى يبست ـ لوقت معدود وأمد معلوم، ثم نفخ فيها من روحه، فمثلت إنساناً ذا أذهان يجيلها، وأفكار يتصرّف بها، وجوارح يختدمها، وأدوات يقلّبها، ومعرفة يفرق بها بين الحق والباطل والأذواق والمشامّ والألوان والأجناس».

ولا شك أن هذا الكلام منه يختص بآدم×.

أمّا حواء: ففي أمرها خلاف، فمنهم من قال: إنها÷ خلقت من فاضل طينة آدم×([12])، وعلى هذا فإن الأدوار التي مرت بها حواء هي الأدوار التي مر بها آدم، وهي الأدوار الأربعة التي مرّ ذكرها.

ومنهم من قال: إنها خلقت من ضلع آدم([13]). ويحتج أهل هذا القول بأن في خلقها من ضلع آدم تفنّناً في القدرة أوّلاً، ولتنال شرف السجود لآدم ثانياً.

ويقول أهل هذا القول: إن في ظاهر الكتاب والسنّة ما يساعد على ذلك، فمن الكتاب قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا([14]).

وقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا([15]).

وقوله تعالى: ﴿خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا([16]).

ومن السنّة ما روي عن النبي| أنه قال: «إن المرأة خلقت من ضلع أعوج»([17]).

وقد أشكلوا على هذا القول بأن علم التشريح قد أثبت أن أضلاع الرجال لا تنقص عن أضلاع المرأة، كما يزعم بعض أهل هذا القول، وأن عدد أضلاعهما واحد.

وردوا عليهم: بأن هذا القول لا يصلح أن يكون إشكالاً؛ لأنه يحتمل أن يكون معنى أن الله خلق حواء من ضلع آدم أن: «من» للتبعيض، وأنه سبحانه خلقها من بعض ضلعه لا منه كله، كما أنه يخلق الجنين من بعض نطفة أبيه لا من نطفته كلها.

يتبع…

______________________________________________

([1]) الدهر: 1.

([2]) النحل: 43.

([3]) الرعد: 9.

([4]) المقنعة: 564، النهاية: 565.

([5]) ابراهيم: 25.

([6]) الكافي 4: 142/ 6، تهذيب الأحكام 8: 314/ 1168.

([7]) الفرقان: 54.

([8]) النور: 45، وقال عزّ من قائل فيها: ﴿فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ﴾.

([9]) الحج: 5.

([10]) المؤمنون: 12.

([11]) ص: 71 ـ 72.

([12]) بحار الأنوار 11: 115/ 42.

([13]) الفقيه 4: 226/ 5702، صحيح مسلم بشرح النووي 10: 58.

([14]) النساء: 1.

([15]) الأعراف: 189.

([16]) الزمر: 6.

([17]) الاختصاص: 339، المستدرك على الصحيحين 4: 174.

الكاتب الشيخ عبد الحميد المرهون

الشيخ عبد الحميد المرهون

مواضيع متعلقة