شرح دعاء الصباح 12- القسم الثاني

img

﴿وَعَلِمَ بِمَا كانَ قَبلَ أن يَكُونَ﴾

وأمّا المَطلَبُ الثاني، فنقول: علمه تعالى له مرتبتان: علم عنائيٌّ ذاتيّ في مقام الخفاء والغيب المطلق؛ وعلمٌ فعليّ في مقام الظّهور والفعل:

فالاُولى: مقام التفصيل في الإجمال، وهو ما قال الحكماء الرّاسخون فيه: إنّ بسيط الحقيقة كلّ الأشياء بنحو أعلى، وليس بشيء منها.

والثّانيّة: مقام الإجمال في التّفصيل: ﴿اللهُ نورُ السّماواتِ وَالأرْضِ([6])، وفيه قال الحكماء الإلهيّون: صفحة نفس الأمر وصحيفة عالم الوجُود في الأعيان بالنّسبة إليه تعالى كصفحة الأذهان بالنّسبة إلينا([7]).

ففي الاُولى وجدان ذلك البسيط كلّ وجود بنحو أعلاه علمٌ سابقٌ على كلّ مرتبة، فإنّ العلم بالشّيء هو حُضوره للمجرّد، وأيّ حضور أشدّ من حضور النّحو الأعلى من الشيء للمجرّد المنطوي في حضور ذاته لذاته؟ فإنّ علمه بذاته على وجه يستتبع علمه بما عدا ذاته. والاستتباع والاستلزام هنا([8]) على التّحقيق من قبيل الملزوم واللازم الغير المتأخّر في الوجود، كما في مفاهيم أسمائه وصفاته بالنّسبة إلى وجود ذاته، وصور أسمائه وصفاته من الماهيّات والأعيان الثابتات كذلك بالنّسبة إلى وجود ذاته. فهو ـ تعالى عن المثل والتّشبيه ـ كمرآة فيها صور جميع الأشياء، إذا كانت عالمة بذاتها حاضرة ذاتها لذاتها.

ثمّ في مقام العلم الفعليّ الثّانوي أيضاً علم سابق؛ لأنّ وجود الأشياء بما هو مضاف إليها معلوم الله وهو بما هو مضاف إلى الله علمه. ومعلوم أنّ إضافته إلى الله سابقة سبقاً ذاتيّاً أزليّاً على إضافته إلى ماهيّاتها الإمكانيّة، وهو بما هو معلومٌ ليس صفةً لله تعالى([9])، وفيه التغيّر والتّغاير، وبما هو علمٌ صفة فعليّة لله ليس فيها تكثّر، كما قال تعالى: ﴿وَما أمرُنا إلّا واحِدَةٌ([10])، ولا فيها تغيّر كما قال الحكماء: الأزمنة والزّمانيّات بالنّسبة إليه تعالى كالآن، والأمكنة والمكانيّات بالنسبة إليه كالنقطة؛ فلا دثور ولا زوال([11]): ﴿ما عِندَكُم يَنفَدُ وَما عِندَ الله باقٍ([12])، ولا مضيّ ولا حال ولا استقبال لديه «لَيسَ عِندَ رَبّي صَباحٌ وَلا مَساءٌ»، بل هذا هكذا([13]) عند مقرّبي حضرته فضلاً عن جنابه الأقدس، بل عنوان الوجود ـ إذا تذكّرت أحكامه المذكورة في العلم الإلهي ـ يرشدك إلى ما ذكرنا، فضلاً عن عنوان الوجُوب. وفي العلم مباحث شريفة، ولكن فيما ذكرنا غُنيةٌ للمتبصِّر.

 _________________________________________

([6]) النور: 35.

([7]) سيّما إذا كانت ما في صفحة الأذهان قويّة كما في النّوم والإغماء ونحوهما، وفي أرباب الكمال من أصحاب الكرامات وأرباب الإنذارات ما هو أقوى من هذه الموجودات الطبيعيّة بكثير. وبالجملة، جميع ما تراه في منامك ـ مثلاً ممّا تلذك وتؤلمك، وتخاطبه ويخاطبك ـ علومك الحضوريّة؛ قويّة كانت أو ضعيفة، فهكذا ما في صحيفة نفس الأمر بالنسبة إليه تعالى. منه.

([8]) أي في العلم العنائي؛ لأنّ النحو الأعلى من الموجودات فيه بنحو الانطواء. منه.

([9]) وهذا كما أنّ الحجر الذي في ذهنك ـ بما هو معلومٌ ـ ليس صفةً لنفسك، ولكن بما هو علمٌ صفةٌ لها. والكفر ليس صفتك ولكنّ العلمَ به صفتك، مع أنّ العلم والمعلوم بالذّات واحد. والسرّ فيه أنّ الصورة العلميّة بما هي وجودٌ علم، ووجودها من النّفس بما هي ماهيّة معلومة، والماهيّة ظلمة وليست علماً ونوراً. منه.

([10]) القمر: 50.

([11]) إن قلت: دثور هذا النّبات أو الحيوان من المحسوسات والمحسوس من البديهيّات.

قلتُ: ما هو داثرٌ وزائل هو النبات والحيوان لا الوجود. والثابت الباقي إنّما هو الوجود بما هو وجود، بما هو مضاف لله تعالى، وهذا ما قلنا: «بل عنوان الوجود» إلى آخره. منه.

([12]) النحل: 96.

([13]) بل الأمر هكذا بالنسبة إلى الشّمس؛ إذ الضّياء يدور معها حيثما دارت، ولا طلوع ولا غروب عندها، فكيف بالنّسبة إلى شمس الحقيقة؟! منه.

الكاتب الملا هادي السبزواري

الملا هادي السبزواري

مواضيع متعلقة