شرح دعاء الصباح 12- القسم الأول

img

﴿وَعَلِمَ بِمَا كانَ قَبلَ أن يَكُونَ﴾

ليس المقصود التّخصيص بما كان في الماضي، بل المعنى: هو تعالى عالم بالكائن قبل كونه؛ سواء كان «ما كان»، أو «ما يكون في الحال»، أو «في الاستقبال»؛ لأنّ الأفعال المنسوبة إليه جلّ شأنه منسلخة من الزّمان، بل المقصود بالكون ما يرادف الوجود؛ ليشمل المبدعات والمخترعات والمكونات، كما في الدّعاء: «يا كائِنُ، يا مُكَوِّنُ، يا كينون، يا كَينانُ»([1])، لا الكون المقابل للإبداع والاختراع في بعض الاصطلاحات حيث يقال: عالم الكون، وعالم الكيان، ويراد عالم الطبيعة فحسب، أو الماضوّيّةُ باعتبار الكينونة في العلم قبل أن يكون.

وفي هذه الفقرة الشّريفة دلالة على مطلبين:

أحدهما: أنّه تعالى عالم بجميع ما سواه لعموم الموصول.

وثانيهما: أنّ علمه بها سابق على وجودها.

أمَّا المَطَلب الأوَّلُ، فالبرهان الدّال عليه، المعتبر عند المحقّقين من الحكماء والمتكلّمين أنّ ذاته علّة لجميع ما سواه([2])، وذاته عالم بذاته، والعلم بالعلّة مُستلزم للعلم بالمعلول:

أمّا أنّ ذاته علّة لجميع ما سواه، فلأنّ العلّة المؤثّرة المُستقلّة يجب أن يسدّ جميع أنحاء عدم المعلول، ولا يتأتّى ذلك بالعلل الإمكانيّة؛ لأنّ من جملة أنحاء عدمِ معلولها انعدامُه بانعدامها، ولا يمكنها سدّ انعدام نفسها، فجميع الممكنات ـ ولو كانت غير متناهية ـ في حكم ممكن واحد في جواز طريان العدم عليها. فالسّد المذكور لا يتمشّى إلّا من العلّة الوجوبيّة؛ فواجب الوجود بالّذات مبدأ سلسلة الممكنات، وسادّ خلّة المحتاجات.

وأمّا انّ ذاته عالم بذاته؛ فلأنّه مجرّد، وثبت في مقامه أنّ كلّ مجرّد عالم بذاته، كما أنّ كلّ عاقل مجرّد. وأيضاً هو معطي وجود العالمين بذواتهم([3]) كالنّفوس والعقول، ومعطي الكمال أحقّ به.

وأمّا أنّ العلم بالعلّة مُستلزم للعلم بالمعلول؛ فلأنّ المراد من العلم بالعلّة العلم بحيثيّة وجهة بها تكون العلّة علّةً، كالعلم بالصّور النّوعيّة النّاريّة، فإنّ النّار علّة للسّخونة بتلك القوّة المسخّنة لا بصورته الجسميّة أو بمادّته. وتلك الحيثيّة قد تكون ضميمة زائدة كما ذكر، وقد تكون عينَ ذات العلّة كما إذا فرضت تلك القوّة قائمة بذاتها لا بمادّة. وفي واجب الوجود عين ذاته([4]) بلا فرض؛ إذ لا صفة فيه إلّا صريح ذاته. فكما أنّ وجود حيثيّة العلّية في الخارج لا يتخلّف عنه وجود المعلول، كذلك وجدانُها العلمي حضوراً أو حصولاً وإلّا فلا علّيّة ولا معلوليّة، هذا خلف؛ فثبت أنّه تعالى كما أنّه عالم بذاته، عالم بما عدا ذاته ـ كليّاته وجزئيّاته، مجرّداته ومادّياته ـ لأنّ الكلّ معلولاته.

ثمّ لمّا كان علّوه تعالى ومجده بذاته، كان العلم الّذي هو كمال ذاته علمه بذاته تفصيلاً، وهو بعينه علمه بما عدا ذاته إجمالاً([5]). وإلى هنا اتّفق المشّاؤون والإشراقيّون، وبعد ذلك اختلفوا؛ فقال المشاؤون: علمه التفّصيلي بما سواه حُصوليّ، أي صُورٌ قائمة بذاته تعالى. وقال الإشراقيّون: حُضوريّ، أي وجودها علمه بها. والحقّ هو الثّاني.

__________________________________________

([1]) شرح الأسماء الحسنى 2: 25.

([2]) قد أُشير إلى هذا البرهان في الكتاب الحكيم الإلهيّ بقوله تعالى: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾. فقوله تعالى: ﴿مَنْ خَلَقَ﴾ دلّ على أنّه علّة لما سواه. وقوله: ﴿وَهُوَ اللَّطِيفُ﴾ فيه إشارة إلى أنّه مجرّد عن المادّة مطلقاً وعن الماهيّة. وفي ﴿الْخَبِيرُ﴾ دلالة على أنّه عالم بذاته؛ لأنّه مجرد، وكلّ مجرّد عالم بذاته، وقد علم أوّلاً أنّ ذاته علّة لما سواه، والعلم بالعلّة مستلزم للعلم بالمعلول، كما تقرّر؛ فثبت أنّة عالم بالأشياء جميعاً. منه.

([3]) ومعطي علمهم بذواتهم، وإنّما اكتفينا بمعطي الوجود؛ لأنّ علمهم بذواتهم عين وجود ذواتهم. وقد قال الرّضا(عليه آلاف التحيّة والثّنا): «قد علم أُولو الألباب أنّ ما هنالك لا يعلم إلاّ بما هاهنا». مثل أن نعلم أنّ هاهنا علماً بسيطاً كالعقل البسيط، وأنّ هاهنا علماً فعليّاً ونحو ذلك فأثبتناها للمبدأ، فكذا العلم الحضوري للمجرّد بذاته. منه.

([4]) وتلك الحيثيّة قد يعبّر عنها بالخصوصيّة فيه تعالى حقائق أسمائه، أو النّحو الأعلى فيه من كلّ وجود، أو الوجود المنبسط الذي هو كلمة «كُن»:

وكلّ إلى ذلك الجمال يشيرُ

ومعلوم أنّ العلم بحقائق الأسماء مستلزم للعلم بمظاهرها، وكذا العلم بالنّحو الأعلى؛ لأنّ شيئية الشيء بتمامه. ومثله الكلام في الكلمة؛ لأنّ كلمتّه فعله وإيجاده، وإيجاده الحقيقيّ ذلك الوجود المنبسط والعلم به مستلزم للعلم بكلّ ما هي مشمولاته. منه.

([5]) إنّما كان إجمالاً؛ لأنّ الشيء الواحد الأحد لا يمكن أن يحكي عن الكثير عندهم، فصورة الشّمس لا يمكن أن يحكي إلّا عن الشّمس، لا عن القمر والحجر والمدر وغيرها. وعندنا: ليس كذلك، بل علم إجمالي بما عداه، في عين الكشف التفصيلي؛ لأنّ وحدة ذلك الوجود الواجب وحدة حقّة حقيقيّة لا عدديّة، وهو بوحدته يوازي الكلّ بكثرتها، فلا يشذّ عنه وجود، ولا يعزب عنه ماهيّة؛ لأنّ الماهيّة لوازم أسمائه غير متأخرة في الوجود، والنّور حيثيةٌ ذاتُهُ الظّهورُ والإظهارُ. وكلّما كان النّور أشدّ وأجمع، كان الظّهور والإظهار أتمّ، فكان التفصيل أتمّ وأظهر. منه.

الكاتب الملا هادي السبزواري

الملا هادي السبزواري

مواضيع متعلقة