شرح دعاء الصباح 11- القسم الثاني

img

 (11) ﴿وَبَعُدَ عَن مُلاحَظَةِ العُيُونِ﴾

وبوجه آخر أقول: لطلّاب الحق ـ جلّ شأنه ـ مراتب:

فَمِنهُم مَن يراه بأن يشاهد الكلّ مظاهر أسمائه، ومجالي صفاته، وهذا مقامه، ولكن يطلب أن يراه بأن يشاهد أسمائه وصفاته، ويستهلك في نظر شهوده المظاهر، فيرى الحيوانَ مظهر المُدرك السّميع البصير، والمَلَك مَجلى السُبّوح القُدّوس، والإنسانَ مظهر اسم الجلالة، وهكذا. ولكن يطلب مقاماً أشمخ وأعلى منه وهو أن يرى المدرك السّميع البصير السُبّوح القدّوس من غير أن يرى الحيوانَ والمَلَكَ، أو يرى الله جلّ جلاله من غير أن يرى الإنسان، وهكذا.

وَمِنهُم من هو في المقام الثاني ـ أعني يرى السّميعَ البصير لا الحيوانَ، والسُبّوحَ القُدّوسَ لا الملَك، والله تعالى لا الإنسانَ الكامل ـ ولكن يطلب مقاماً أشمخ منه وهو أن يرى المسمّى والموصوف، لا الأسماء والصّفات؛ لأنّ «كمال الإخلاص نفي الصّفات» كما هو المأثور عن صاحب هذا الدّعاء، فيقال له: لن تراني؛ إذ لا يرى ذاتَه كما هو هو إلّا هو، ويتلاشى عند نارِ هذا التجلّي كلّ ما هو سوى ذاته، فلا يبقي ملكٌ مقرّب، ولا نبيٌّ مرسل، ولا أُولو العزم ولا آدم ولا خاتم، ويقال: إنّ في التّورية أنّه لا يراني ابن آدم([12]) وهو حيّ، أي بحياته الإمكانيّة وبإنّيته المحدودة. وقريبٌ من هذا ما ورد أنّه: «لا يقوم القيامة وعلى وجه الأرض من يقول: الله الله».

وتخصيص الأشاعرة الرؤيةَ بالآخرة باعتبار أنّ الكامل([13]) بما هو مشاهد للأمور الباطنة اُخرويٌّ، وإن كان ببدنه بعد في الدّنيا؛ أو باعتبار أنّ أعذب أنحاء الشهود وأحلاها وأخلصها عن الشوائب، وأصفاها وأمثلها وأسناها يتيسّر في الآخرة، كما قال تعالى: ﴿فَكَشَفنا عَنكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ اليَومَ حَديدُ([14])، وكما قال النّاطق([15]) ـ بكلمة: «لم أعبدْ رَبَّاً لَم أرَه»([16])، والمُبدي بمخزونه: «لَو كُشِفَ الغِطاءُ ما ازددت يَقيناً»([17]) ـ عند الشهادة: «فُزتُ برب الكَعبَةِ»([18]).

وأمّا الرّؤية البصريّة، فلا ينبغي للعاقل أن يتوقّف في مُحاليّتها؛ لأنّها لا تعقل بلا مكان وجهة، وبدون مقابلة ومواجهة، وتأثير القوى الجسمانيّة وتأثّرِها بمشاركة الوضع، وكلّ ذلك من لوازم الجسميّة. والأشاعرة أيضاً متحاشون عنها، ومن أصرّ منهم على الرؤية البصريّة فنحن نتبرّأ منهم.

وما حقّقنا إنّما هو تفسير وتأويل للرؤية والنّظر الواردَيْن في كلام الله تعالى ورسولهِ وأوليائِه، وبذل جهدنا إنّما هو فيه.

ثمّ إنّ بين «قَرُبَ» و«بَعُدَ» تضادّاً، كما أنّ بين «الظنون» و«العيون» إيهام التضادّ([19]).

_______________________________________

([12]) أمّا العقل البسيط المكتحل بنور الله، فهو ليس ابن آدم، كما قيل:

وإنّي وإن كنت ابن آدم صورة

  فلي فيه معنى شاهد بأبوّتي

[تفسير كنز الرقائق1: 76، والبيت لابن الفارض]

والمراد بهذه الأبوّة: الحيطة والكليّة بحسب الوجود على الأبدان البشرية والنواسيت الإنسية. منه.

([13]) فإنّ صورته توهم أنّه محدود في زمان خاصّ، ومكان خاصّ، وواقع في جهة سفلى. وأمّا معناه فعقله البسيط مجرّد عن الجهات والأحياز والأوقات، «فأينُه» الجبروت، و«متاه» الدّهر الأيمن الأعلى وليس مورّخاً بتاريخ مخصوص، بل واحد من كليّاته العقليّة، وجهه محيط برقائقه المثاليّة والطبيعيّة غير وضعيّ وزمانيّ كما شرحنا في موضع آخر. وهو إشراق واحدٌ من هذا النور الإسفهبد، بل العقل البسيط بما هو عارف بالوجود الحقيقي وأحكامه متّصل به، ومتمكّن في هذا العرفان والاتّصال فيما وراء نشأتي الدّنيا والآخرة، وليس في المتى ولا في الدّهر، وقد قال القدماء: «نسبة الثابت إلى الثابت سرمد» [بحار الأنوار 54: 236، وفيه: «ظرفها السرمد»، شرح المقاصد1: 291، وفيه: «هو السرمد»]. منه.

([14]) ق: 22.

([15]) أي القران الناطق، وهو أمير المؤمنين×.

([16]) الكافي 1: 98. التوحيد: 109، وفيهما: «ما كنت  أعبد…».

([17]) التحفة السنية (مخطوط) : 7، شرح أصول الكافي 3: 173.

([18]) خصائص القرآن: 64. مناقب آل أبي طالب 1: 385.

([19]) هذا الإيهام ناشئ من كون الظن منه الباطل، والرؤية بالعين حقٌّ واقع، كما ورد عن أمير المؤمنين× من قوله: «أما إنه ليس بين الحق والباطل إلا أربع أصابع»، وجمع أصابعه الأربعة ووضعها بين اُذنه× وعينه، ثم قال: «الباطل أن تقول: سمعت، والحق أن تقول: رأيت».نهج البلاغة/الكلام:141.

الكاتب الملا هادي السبزواري

الملا هادي السبزواري

مواضيع متعلقة