شرح دعاء الصباح 11- القسم الأول

img

 (11) ﴿وَبَعُدَ عَن مُلاحَظَةِ العُيُونِ﴾

لمّا استفيد من قربه تعالى من «خواطر الظنون» بالبيان المذكور: مشهوديتُهُ لأهل الشهود والخواصّ الّذين هم أهل الله المعبود ـ ولعلّه أوهم الرؤية البصريّة ـ أردفه بهذه الفقرة.

والمراد «بالبُعد»: البُعدُ العقلي بمقتضى البرهان، لا البعد الّذي قد يجامع الأمكان. ففيه ردٌّ على المشبِّهة الّذين يقولون بصحة رؤيته في الجهة والمكان دنيا وعقبى؛ لكونه عندهم جسماً (تعالى عن ذلك علّوا كبيراً)، وعلى الأشاعرة الّذين قالوا بصحّة رؤيته في الآخرة منزَّهاً عن الجهة والمكان.

وقد طال التشاجر بين المعتزلة والأشاعرة في مسألة الرّؤية؛ فذهب المعتزلةُ إلى الامتناع دنيا وآخرةً، والأشاعرةُ إلى الجواز آخرةً؛ فقالوا: إنّه تعالى يُرى، وينكشف لعباده المؤمنين في الآخرة انكشاف البدر المرئي. وحرّر بعض متأخّريهم محلّ النّزاع بأنه لا نزاع للنّافين في جواز الانكشاف التامّ العلمي، ولا للمثبتين في امتناع ارتسام صورة من المرئي في العين، أو اتّصال الشعاع الخارج من العين بالمرئي، وإنَّما محلّ النّزاع أنّا إذا عرفنا الشمس مثلاً بحدّ أو رسم كان نوعاً من المعرفة، ثمّ إذا أبصَرْناها وغمَضْنا العين كان نوعاً آخر من المعرفة فوق الأوّل، ثمّ إذا فتحنا العين حصل نوع آخر من الإدراك فوق الأوّلَيْن نسميّه الرؤية. ولا تتعلّق في الدّنيا إلّا بما هو في جهة ومكان، فمثل هذه الحالة الإدراكيّة، هل تصحّ أن تقع بدون المقابلة والجهة، وأن تتعلّق بالحقّ المتعال منزّهاً عن الجهة والمكان([1]) أم لا؟ والكتب الكلاميّة مشحونة بذكر حجج الفريقَيْن من أراد فليطالعها.

وَالحَقّ أنّ مراد محقّقي الأشاعرة من الرؤية هو شهود الحقّ بالحقّ بعين اليقين، أو حقّ اليقين كما مرّ في بعض وجوه قوله عليه السلام: «يا من دلّ على ذاته بذاته»([2]). وهو مُجْمَعٌ عليه للعرفاء الشامخين، والعقلاء والمتكلّمين، بل جميع إرسال الرّسل، وإنزال الكتب، وإرشاد الكاملين المكمّلين إنّما هو للايصال إلى هذه البُغية العظمى، والغبطة الكبرى، كما قال تعالى: ﴿وَما خَلَقتُ الجِنَّ وَالإنسَ إلّا لِيَعبدونِ([3])، وفي القدسي: «خَلقَتُ الخَلقَ لِكَي اُعْرَف»([4]). والفلاسفة قالوا: الفلسفة هي التشبّه بالإله، والتخلّقُ بأخلاق الله علماً وعملاً. وجعلوا أخيرة مراتب العمل أيضاً الشّهود والمعرفة؛ فإنّ العمل تهذيب الظاهر، وتهذيب الباطن، والتحلّي بالفضائل، والفناء. ثمّ فسرّوا الفناء بأن يرى ويشاهد كلِّ قدرة مستغرقةً في قدرة الله تعالى، وكلِّ علم مستهلكاً في علمه تعالى، بل كلّ وجود وكمالِ وجود مستهلكاً في وجوده. فانظر إلى جعلهم غاية العمل هي المعرفة والشّهود؛ ولذا فسّر المفسّرون([5])﴿لِيَعْبُدُونِِ([6]) بقولهم: «ليعرفون»([7]).

وكما أنّ المعرفة الشهوديّة هي الغبطة العظمى، فالحرمان عنها هو الغبن الأفحش، وسمّ ناب الأرقَش([8]) كما أخبر عن سوء عاقبة المحرومين: ﴿كَلّا إنَّهُم عَن رَبِّهِم يَومئذٍ لمحجُوبُون([9]).

وفي دعاء كميل عن عليّ عليه السلام: «فَهبني يا إلهي وَسَيِّدي وَمَولايَ وَرَبّي صَبَرتُ على عَذابِكَ، فَكَيفَ أصبِرُ عَلى فِراقِكَ»([10]).

وفي مناجاة الشيخ عبد الله الأنصاري+: «إلهى چون آتش فراق داشتى با آتش دوزخ چه كار داشتى»([11]).

وقولهم في تحرير محلّ النزاع: «فمثل تلك الحالة الإدراكيّة» ـ إلى آخره، ينادي بذلك؛ فإنّه يكون من باب «خُذْ الغايات ودَعْ المبادئ»، وبذلك فليتصالح الفئتان؛ فإنّ الإنكشاف التامّ العلمي المجوَّز عند المعتزلة يحمل على العلم الحضوري، ولا يقتصر على الحصُولي.

إن قلتَ: إذا كان المراد بالّرؤية هي الشّهود والعلم الإشراقيّ الحضوري، فكيف طَلَبَ موسى عليه السلام الرؤية وهو طلبُ الحاصل له؟ وكيف أُجيبَ بـ﴿لَن تَرَانِي﴾؟

قلتُ: الرؤية والشهود ـ على وجه حاصلٌ لأكثر الأولياء، ولأكثر الأنبياء ـ عادتُه ودَيْدَنُه، وإنّما طلب الّرؤية على وجه اقتضاه مقام الخاتميّة.

__________________________________________

([1]) شرح المقاصد2: 110-111.

([2]) التوحيد: 35. الأمالي (المفيد): 254، تفسير البحر المديد 6: 156، الكشف والبيان 12: 325، وغيرها كثير.

([3]) الذاريات: 56.

([4]) عوالي اللآلي 1: 55. بحار الأنوار 84: 199.

([5]) لأنّ العلّة الغائيّة للإيجاد هي المعرفة، وصيرورة النّفس النّطقيّة القدسيّة مرآةً للحقّ، بحيث تكون المرآة فانية في المرئي كما هو شأن المرآة والعمل إنّما هو تصقيل لها، ومقدّمة للمعرفة. فوجوب المعرفة أصالي، ووجوب العمل توصّلي، ومعلوم أنّ أصعبه وأتعبه يتّفق للحيوان النّاطق الناقص فطرة بحسب القوّة النّظريّة، والحيوان الصّامت. وإذ لا معرفة فلا وزن له عند الله، لكن مزاولة الأعمال الحسنة والأخلاق المرضيّة نعم العونُ على تقوية المعرفة، وتروية أشجارها الطيّبة: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ أي كلمة التوحيد الخاصّ والأخصّ، وعلم الأسماء ﴿وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾، فإنا نرى القاضين أوطار النفس المسوّلة من مدّعي العلم والمعرفة لا ينمو معارفهم، بل يكاد يجفّ أُصول أشجارها، والحق في الجمع. منه.

([6]) الذاريات: 56.

([7]) تفسير السلمي 2: 278.

([8]) الأرقَش: حيّة منقّطة بسواد وبياض.

([9]) المطففين: 15.

([10]) مصباح المتهجّد: 847. المصباح (الكفعمي) : 558.

([11]) شرح الأسماء الحسنى 1: 30 و 2: 23.

الكاتب الملا هادي السبزواري

الملا هادي السبزواري

مواضيع متعلقة