شرح دعاء الصباح 8

(8) ﴿وَتَنَزَّهَ عَن مُجانَسَةِ مَخلُوقاتِهِ﴾

لمّا أوهم الفقرة السّابقة، سيّما على الوجه الّرابع، التّشبيهَ، صار المقام مقام التّنزيه والإجلال؛ لأنّه تعالى خارج عن الحدّينَ: حدِّ التّشبيه، وحدِّ التّنزيه. قال تعالى: ﴿لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ([1])([2]).

و«المجانسة»: الاتّحادُ في الجنس، ومن المعلومات تنزيهه تعالى عن ذلك؛ إذ لو كان له تعالى جنسٌ شارَكْتهُ فيه مخلوقاتُه ـ ومن المتقرّرات في مقرّه أنّ الجنس ماهيّةٌ مبهمة، والفصل علّة لتحصُّله وتعيُّنه ـ كان له فصل، فيلزم أن يكون له تعالى ماهيّة. وقد برهن في مقامه أن لا ماهيّة له سوى الإنيّة. وأيضاً يلزم أن يكون مركّباً، فيلزم الحاجة في أصل قوام الذّات وتقرّره، وهو أشدّ محذوراً من الحاجة([3]) في الوجود؛ لأنّ تجوهر ذاته ليس سوى ذينك الجوهرين والإمكان؛ إذ كما أنّ كلّ ممكن زوج تركيبيّ، كذلك كلّ مركّب ممكن، لا من باب انعكاس الموجبة الكليّة كنفسها، بل من باب مبرهنيّة كلّ من القاعدتين([4])، هذا خلف.

ثمّ الأجزاء إمّا واجباتٌ، فيلزم تعدد الواجب، وأيضاً يلزم الخلف إذ لا علاقة بين الواجبات بالّذات([5])، فلا تركيب يؤدّي إلى الوحدة، فيكون كلّ واحد بسيطاً وقد فرض واجباً واحداً مركّباً؛ وإمّا ممكنات فالمحتاج إلى الممكن أمكن.

وأيضاً، يلزم مساواة الواجب والممكن في الوجود([6])؛ لأنّ الجنس والفصل متّحدان في الوجود بمقتضى الحمل، فوجود فصله بعينه وجود جنسه الّذي هو جنس الممكنات تعالى عنه.

وأيضاً، لو كان له تعالى جنسٌ، فجنسه:

إمّا الوجود؛ فيلزم قلب المقسم مقوّماً؛ لأنّ حاجة الجنس إلى الفصل في الوجود، والفرض أنّ الوجود قوام هذا الجنس بخلاف الأجناس في المواضع الأُخرى؛ لأنّ ماهيّاتها غير إنيّاتها، فمفيد وجودها غير مفيد قوامها.

وإمّا غير الوجود، وغير الوجود إمّا العدم، وإمّا الماهيّة، وساحة عزّه منزّهٌ عنهما جميعاً.

ويمكن أن يُراد «بالمجانسة» معناها اللغوي، فيطلق على النّوع لغةً. ويقال على ما يطلق على القليل والكثير، كالماء يطلق على القطرة وعلى ماء البحر. والأولى أن يراد بها ما يشمل جميع أقسام الاتّحاد الّتي كلٌّ منها يختصّ في الاصطلاح باسم، وهو القدر المشترك بينها، أعني الاتّحاد بين شيئَيْن في جهة جامعة، فيشمل «المماثلة» وهي اتّحاد الشّيئين في الماهيّة ولازمها، و«المجانسة الخاصة» وقد مرّت، و«المساواة» وهي الاتّحاد في الكمّ، و«المشابهة» وهي الاتّحاد في الكيف، و«المناسبة» وهي الاتحاد في الإضافة([7])، و«الموازاة» وهي الاتّحاد في الوضع، و«المحاذاة» وهي الاتحاد في الأَين، وكذا «الهوهويّة» الّتي هي تعبير عن «الحمل» في الاصطلاح وهو الاتّحاد في الوجود ونحو ذلك.

وأفرد «المشابهة» كما يأتي في قوله×: «وجَلَّ عَنْ مُلاَءَمَةِ كَيْفِيَاتِهِ»؛ لأنّ الكيفيّة أصحّ الأعراض وجوداً وأشملُها، حتّى إنّ بعض علوم المجردات عند بعض الحكماء كيفيّات.

والحاصل أنّه كما لا مثل وندَّ لجنابه الأقدس: ﴿فَلا تَجعَلُوا للهِ أَنْدَادَاً وَأَنْتُمْ تَعَلَمُونَ([8])، كذلك لا مُجانِسَ ولا مُشابِهَ ولا مُساويَ ولا مُوازيَ ولا مُحاذيَ ولا مُناسِبَ له تعالى؛ لانتفاء الماهيّة النوعيّة والجنسيّة والكيف والكمّ والوضع والأين والإضافة المقوليّة عنه، بل لا شريك له في الوجود؛ لأنّ له حقيقة الوجود وهو الموجود في نفسه بنفسه لنفسه، ولغيره من حقيقة الوجود سرابها.

وإذ علمتَ أن لا مناسب له تعالى فالمناسبات الّتي ذكرها الصّوفية: كالتّمثيل بالبحر والموج والحباب، وبالشّعلة الجّوالة والّدائرة، وبالواحد والعدد(، وبالعاكس والعكس، ونحو ذلك، والحكماء: كالتمثيل بالحركة التوسطيّة( والحركة القطعيّة، وبالآن السيّال والزّمان، وبالعقل البسيط الإجمالي والعقُول التفصيليّة وأمثالها، المقصود منها المثالُ المقرِّب من وجه الّذي هو ظهورٌ منه وفانٍ فيه، لا المناسب الّذي يكون شيئاً على حياله؛ فهو متعالٍ عن المثل لا عن المثال، بل له الأمثال العليا، كما أثبت نفسُه لنفسِه بقوله: ﴿مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاة فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَة﴾الآية([9]). والمثل الأعلى له تعالى هو الإنسان الكامل.

و«المجانسة» ـ بفتح النّون، وقد يشكّ في فتح العين وكسرها ـ : من المفاعلة الّتي هي مصدر «فاعَلَ» ويُرشدك إلى فتحها بعلاوة ضبط الفتح في كلمات الفصحاء المعربة، مثل «المساواة» و«المعاطاة» و«المهاباة» و«المباراة» ونحوها، فإنّ الياء تقلبُ ألِفاً إذا كان ما قبلها مفتوحاً.

______________________________________

([1]) الشورى: 11.

([2]) لأنّ مثل الّشيء ثانٍ له، وحقيقة الوجود الصّرف: كلّ مافرضته ثانياً لها؛ فهو هي لا غيرها. وأيضاً، ما لا ماهيّة له كليّة لا مثل له ولو ذهناً.

وفي الآية جمعٌ بين التّنزيه والتّشبيه: فإنّ النفي تنزيه سلب مثليّة أيّ شيء كان ولو مثل عقل الكلّ؛ والإثبات صفة تشبيه لأنّ السّمع والبصر ونحوهما ـ وبالجملة، الإدراك للجزئيات المحسوسة بل الموهومة ـ متحقّق في الحيوان، فضلاً عن غيره، فإنّه مظهر لهذه الأسماء، بل أثبتت بصيغ المسند المعرَّف باللاّم المفيدة للقصر على المسند إليه نحو: زيدٌ الأمير. وذلك النّفي لم يتحقّق في شيء. منه.

([3]) لأنّ الحاجة في الوجود حاجةٌ في مقام العارض؛ لأنّ الوجود عارض الماهيّة، ويؤكّد الأشديّة على القول بأصالة الماهيّة وفي الواجب بالذّات؛ لأنّ ماهيته المفروضة فاعلة لوجوده. كما ألزموا أنّه لو كان له ماهيّةٌ لزم تقدّمها بالوجود على وجوده. وفي الكلام تعريض على بعض القائلين بأصالة الماهيّة حيث حصر المحذور في الحاجة في الوجود مع أنّها أيضاً تلزم؛ لأنّ الوجود محتاج إلى القوام، والقوام إلى الأجزاء. منه.

([4]) فإنّ المركّب متعلّق القوام بكلّ جزء، والتعلّق هو الإمكان، وأيضاً جائز العدم في مرتبة كلّ جزء، والوجود بعدها. منه.

([5]) إذ العلاقة إمّا بكون بعضها علّة وبعضها معلولاً، وإما بكونها منتهية إلى علّة، وكلاهما ينافي الوجوب الذّاتي. منه.

([6]) رجوعٌ إلى الأوّل، أي لو كان له جنس مشارك مع الممكن، لزم المساواة كما قلنا الذي هو جنس الممكنات؛ وأمّا على تقدير كون الأجزاء ممكنات، لزم المساواة لأنّ الجنس والفصل والنّوع متّحدة في الوجود. منه.

([7])  كما يقول الحكماء: نسبة النفس النّاطقة إلى صيصيّتها نسبة الملك إلى المدينة، والرّبّان إلى السفينة، وكما ليس لله تعالى مُماثل، كذلك ليس له مناسب. وأمّا المناسبات التي ذكرها القوم فسيأتي وجهها بعد أسطر. منه.

([8]) البقرة: 22.

([9]) حيث إنّ الأعداد مع تكثّرها وتباينها واختلاف آثارها، ليس يقوّمها إلاّ الواحد؛ فالاثنان ليس إلاّ الواحد والواحد وكذا الألف وما فوقه وما تحته بخلاف الأنواع الأُخرى، فالإنسان نفس وبدن، والبيت سقف وجدران، وقِس عليهما؛ فكذا كلّ وجود ليس مقوّمه إلاّ حقيقة الوجود، وكذا مبدئ الأعداد وراسمها ليس إلاّ الواحد، وكذا عادّها ومفنيّها ليس إلاّ الواحد. منه.

([11]) أي نقطة الوجود السائرة في السّلسلة الطولية النزوليّة والسّلسلة الطولية العروجيّة والسّلسلة العرضيّة الزّمانيّة. والراسمة بسيرها انبساطاً مثلها مثل الحركة التوسطيّة؛ حيث إنّها واحدة بسيطة ثابتة والتكثُّر والسّيلان في نسبها عند موافاتهاحدود المسافة، وإنّها ترسم أمراً ممتداً متّصلاً واحداً ذا أجزاء، وكذا الآن السيّال البسيط الرّاسم للزّمان. وأمّا العقل البسيط الخلّاق للعقول التفصيليّة، فهو مثال لعلمه السّابق العنائي، وانطواء كلّ الوجودات في ذلك الوجود بنحو أعلى والماهيّات تحت الأسماء الحسنى وموجوديّتها بوجود واحد. منه.

([12]) النور: 35.

الكاتب الملا هادي السبزواري

الملا هادي السبزواري

مواضيع متعلقة