شرح دعاء الصباح 7- القسم الثالث

(7) ﴿يا مَن دَلَّ عَلى ذاتِهِ بِذاتِهِ﴾

فنصبهم مناراً في بلاده، وأعلاماً هداةً لعباده، وحُجَجاً على بريّته، وخُلَفاء على خليقته؛ ليُحِقّ الحقَّ بكلماته، ويُريَهم نفسَه في أعاظم أسمائه وأكابر آياته، وهم الأنبياء والأولياء (سلام الله عليهم أجمعين). وبالحقيقة هم العقول الكليّة في السّلسلة الصّعوديّة، بإزاء العقول الكليّة في السّلسلة النّزوليّة، وكما أنّ أُولئك العقول لانتفاء الإمكان الاستعدادي والحالة الانتظاريّة ـ وبالجملة، المادّة ولواحقها عنها واختفاء إمكانها الذّاتي تحت سطوع نور الأزل، فلم يُمكنه من البروز ـ كانت من صقع الرّبوبيّة باقية ببقاء الله، موجودة بوجود الله، كذلك هؤلاء العقول الصّاعدون لتخلّقهم بأخلاق الله، ونضوهم جلابيب الأبدان، وتمكّنهم في مقام خلع النواسيت([22]). وإلى كون هؤلاء العقول مكافئين لأولئك، يشير كلام الشيخ الإشراقي في حكمة الأشراق: «والكامل من المدبّرات، أي الأنوار الإسفهبديّة الإنسانية بعد المفارقة تلحق بالقواهر ـ أي بالعقول ـ فيزداد عدد القدّيسين، أي عدد العقول من الأنوار الكاملة المدّبرة إلى غير النّهاية»([23]).

وقال في موضع آخر في أنّ الاتّحاد الذي بين الأنوار المجرّدة إنّما هو الاتّحاد العقلي لا الجرمي: «وكما أنّ النّور الإسفهبد لمّا كان له تعلّقُ بالبرزخ، وكانت الصيصية مَظهره، فتوهّم أنّه فيها وإن لم يكن فيها. فالأنوار المدبّرة إذا فارقت من شدّة قربها من الأنوارِ القاهرة العالية ونورِ الأنوار وكثرةِ علاقتها العشقيّة معها، يتوهّم أنّها هي، فيصير الأنوار القاهرة العالية مَظاهر للمدبّرات، كما كانت الأبدان مظاهر لها قبل»([24]) انتهى.

وهذا سرّ بعض الشطحيّات الصّادرة من بعض العرفاء. والحاصل أنّهم عليهم السلام في العائدات، كالعقول في الباديات، بل هم أعلى منها، كما قال بعض أولاد ختمهم وسيّدهم: «وَرُوْحُ القدُسِ في جَنانِ الصّاقُورَةِ ذاقَ مِن حَدائِقِنا الباكُورَةَ»([25]).

وقال جبرئيل× ليلة المعراج: «لو دَنوتُ أنملَةً لاحتَرقْتُ»([26])، ونِعْمَ ما قال المولوي:

احمد ار بُگشايد آن پرّ جليل

  تا أبد مدهوش ماند جبرئيل([27])

وقال الشّيخ العطّار:

چون به خلوت جشن سازد با خليل
چون شود سيمرغ جانش آشكار

  پر بسوزد در نگنجد جبرئيل
موسى از وحشت شود موسيجه وار
([28])

فمن عرفهم فقد عرف الله، ومن جهلهم فقد جهل الله، ومن أحبّهم فقد أحبّ الله، ومن أبغضهم فقد أبغض الله، كما قال:

اى بسا كس را كه صُورت راه زد

  قصد صُورت كرد وبر الله زد([29])

إن قلتَ: العقول مطلقاً لم تكن ذات الله تعالى، فكيف يكون فيما ذكرتم دلالة الذّات على الذّات؟

قلُتُ: أنّها وإن لم تكن ذات الله، لكنّها باقية ببقاء الله([30])، موجودة بوجود الله تعالى، لا بوجودات على حيال أنفسها، ولا نفسيّة لها؛ إنّما هي كالمعاني الحرفيّة غير مستقلّة بالمفهوميّة، كما قيل:

كُنّا حُروُفاً عاليات لَم نزرْ

  مُتَعَلَّقات في ذُرا أعلَى القُللْ([31])

 فهي مقام ظهور الأسماء الحُسنى للكنز المخفيّ المسمّى. والاسم عين المسمّى من وجه وغيره من وجه.

وأيضاً، دلالتها على ذات الله باعتبار حملها أعباء صفات الله تعالى، لا باعتبار نفس الحامل والمظهر المستهلك تحت أنوار الصّفات. فبالحقيقة صفاته دلّت على ذاته ولا حكم ولا دلالة لنفس الحامل؛ لأنّه لكمال رقّته ولطافته لا لون له في نفسه فانصبغ بصبغة صفات الله، كالماهيّة والهيولى المبهمتَيْن الفانيتين في الوجود والصّورة، وكالمرآة في عالم الشَّهادة([32]) حيث كانت فانيةً في الصُّوَر المرئيّة فيها، فلا يرى نفسها؛ إذ لا يمكن بروز الصّور فيها من بروزها. والصّفات وإن كانت بحسب المفهوم غير الذّات المتعالية، لكنّها بحسب الوجود عين الذات؛ فدلّ ذاته على ذاته، ثمّ على صفاته([33])، ثمّ صفاته على أفعاله.

وَرابِعُها: أنّ الشيء له وجُود عينيّ، ووجُود ذهنيّ، ووجُود لفظيّ، ووجُود كتبيّ. والوجود الذهني حسّي وخياليّ ووهميّ وعقليّ([34]). وجميع هذه الوجودات أطوار الشّيء وظهوراتُه، وذلك الشيء أصلُها المحفوظ، وسنخها الباقي. والأداني إذا جعلتْ آلات لحاظ الأعالي، فهي هي بوجه وليست هي هي بوجه.

فالوجود الكتبي كصورة زيد المكتوبة على لوح مثلاً، إذا جعل آلة لحاظ وجوده الذهني أو العيني لا يباينهما. كيف، ولو بايَنَهما لم يَسرِ أحكام نسبت إليه بالكتب من كونه حيّاً أو ميّتاً، أو صحيحاً أو مريضاً، أو غير ذلك إليه([35])، والتّالي باطل؟ وإذا كان هذا هكذا ـ والوجود الكتبي واللفظي أبعد من العيني؛ لاختلاف ماهيّاتها ولأنّ دلالتهما عليه بالوضع لا بالطبع ـ فما ظنّك بالوجود الذهني، إذا جعل آلة لحاظ الوجود العيني ولا سيّما في الصّور الذهنيّة المطابقة النفس الأمريَة بوجدان الحدود والرّسوم والوجود والبراهين.

وبالجملة، «ما هو» و«هل هو» و«لم هو» كما هو شأن الحكيم، فإنّ دلالته بالطّبع على الوجود العيني واشتراكهما في الماهيّة؛ إذ الأشياء تحصل بماهيّاتها في الذّهن، والذّاتي لا يختلف ولا يتخلّف؛ فالشمس الذهني إذا جعل مرآة لملاحظة الشمس العيني فهو هو بوجه، ويسري الأحكام منه إليه؛ وإذا أخذ مستقلّاً فليس هو هو، ولكلّ حكمه. وهذا أحد وجوه قولهم: «الاسم عين المسمّى»([36])، أي حتّى اللفظيّ والكتبي.

والحقّ عندنا أنّه هو هو بوجه، أي مأخوذاً «لا بشرط». وليس هو بوجه، أي مأخوذاً بـ«شرط لا»؛ ومن هنا يظهر سرّ احترام الأسماء المكتوبة لله وللنبي والأئمة^.

إذا عرفتَ هذا فنقول: الصّور العقليّة الّتي يجعلها العارف والعالم به والذاكر له عنواناتِ ذاته وصفاته، هي هي بوجه، وليست هي هي بوجه؛ فالمعرفة به بالعنوانات المطابقة معرفتهُ ومعرفة صفاته، ولا يستحقّ ولا يصحّ فيها السلب. وكذا تذكّر الذّاكر له بأسمائه الحُسنى اللّفظيّة، ومعانيها الشامخة الّتي تُرفع درجة الّذاكر بتدبّرها، تذكّراً بلا شائبة خلط وغلط. وذلك باعتبار الوجه الأوّل، وبضميمة أنّ كلّ مفهوم يصدق على نفسه بالحمل الأوّلي الّذاتي. ولا يسلب عن نفسه؛ فمفهوم الوجوب وجوب، ومفهوم الإمكان إمكان، ومفهوم الامتناع امتناع، وليس مفهوم الوجوب بذاته إمكاناً أو ممكناً، وقس عليه.

وما يقال: إنّه سبحانه لا يُكْتَنَهُ، ولا يحاط بالأدلّة العقليّة، وكذا النقليّة مثل قول مولانا باقر العلوم×: «كُلَّ ما مَيَّزتُمُوهُ بِأوهامِكم في أدَقِّ مَعانيهِ، فَهُوَ مَخلُوقٌ مِثلُكُم، مردوُدٌ إلَيكم»([37])، فذلك باعتبار الوجه الثاني، أي أخذ عنواناته الذهنيّة بـ«شرط لا»، وفقط ومعنونات، فإنّها حينئذٍ كيفيّات ذهنية مجعولات ذهنك، ومخترعات خاطرك، وممكنات بالحمل الشّائع بخلاف الوجه الأوّل، فإن الذّهن مستغرق في المسري إليه الحكم؛ فالشمسُ مثلاً الّذي في الذّهن عنوانٌ فانٍ في المُعنوَن الّذي هو الشّمس العيني، ولا وجود للعنوان بما هو عنوان بنفسه، فضلاً عن كونه كيفاً أو غيره. وهكذا في الشمس اللّفظي والكتبي إذا جعلا عنوانين للشّمس الذّهني، فالثلاثة ظهورات للشمس العيني وأطوار له، والوجود منفيّ عنها. فليست حينئذٍ كيفيّات مبصرة ومسموعة ونفسانيّة، بل جواهر بجوهريّته([38])، وموجودات بوجوده.

ثمّ إنّ الفرق بين البيان الثالث والرّابع مع اشتراكهما في بعض المبادئ ـ وهو اتّحاد الاسم والمسمّى بوجه ـ غير خفيّ؛ لأنّه أين الأسماء والأوصاف الذّهنيّة من الأسماء الوجوديّة الّتي ورد فيها عن الأئمّة^: «نَحنُ الأسماء الحُسنى الّذين لا يَقبَلُ الله عَمَلاً إلّا بِمَعرفَتِنا»([39])؟ وأين الوجوه والعنوانات الذّهنيّة؟ وأنّى وجهُ الله الّذي: ﴿أينَما تُوَلّوُا فَثَمَّ وَجهُ الله﴾([40])؟

 _________________________________________

([22])  أي خلع الأبدان أوائله. وهي أن تكون بطريق الأحوال أن يكون للعقل انقطاعٌ عن الجزئيات واتّصال بالكليّات بنحو ملكة الاتّصال العلمي للعقل النظريّ. ومعلوم أنّ صاحب هذه الملكة عند الاتّصال كأنّه طارح للبدن، رافضٌ لأحكامه، وكأنّه يخلو من البدن. ومتى توجّه إلى أحكام البدن كأنّه يملأ منها. ولهذين الخلأ والملأ مراتب.

والتّمكّن في هذا المقام أن يكون في العقلين النظريّ والعمليّ ـ كليهما ـ بالفعل ويكون له الحرّيّة عن الأكوان ويتخلّق بأخلاق الرّوحانيّين، بل بأخلاق الله تعالى ويكون اتّصاله بحقيقة الوجود مقاماً وملكة له. وهذا معنى كون خلع البدن ملكة للمتألّه. منه.

([23])  الحكمة المتعالية 7: 166. شرح الأسماء الحسنى 2: 15.

([24])  شرح الأسماء الحسنى 2: 15.

([25])  مشارق أنوار اليقين: 247. بحار الأنوار 26: 265 و 75: 378.

([26])  التفسير الكبير 2: 234. تفسير ابن العربي 2: 148.

([27]) الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة 4: 434 و 7: 275.

([28]) الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة 4: 434 و 7: 275.

([29]) الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة 5: 283 ، 7: 324.

([30]) يعني أنّها وإن كانت باعتبار جهة نقصها الإمكانيّ سوى الله، لكن سوائيّتها مستهلكة، ونقصها كقطرة مداد في بحر ماء عذب فرات لا نهاية له. وهو ظلّ الله، والظّل ظهور ذي الظّلّ، ولهذا قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ﴾، ولم يقل: «إلى ظلّ ربّك» فهي فانية عن أنفسها، باقية بالله؛ فبالحقيقة دلّت ذات الله على ذات الله.

فانى از خويشم من وباقى به حق

  شد لباس هستيم يكباره شق

منه.

([31]) الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة 3: 41 و 5: 251.

([32]) ومن هنا رجَّح الشيخ محيي الدين الأعرابي نظر مرآتيّة الأشياء له تعالى على نظر مرآتيته تعالى لها؛ فإن المرآة مستورة في المرئيّ من الصّور. فإذا جعلت الأشياء مرائي لله تعالى لم يظهر في نظر هذا النّاظر إلاّ هو لا هي.

وعندي: أنّه إذا أُريد بمرآتيته تعالى منيريّته ـ كما هي قوله: «أنرت دياجي الغسق» ـ وعالميّته وأنّ في نشأة علمه كلّ شيء، عكس الترجيح.

وإلى مرآتية الأشياء أشير بقوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾، وإلى مرآتيته تعالى أشير بقوله: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾. منه.

([33]) فإن حقيقة الوجود الدّالة على الوجوب تدلُّ على الحياة والعلم والإرادة والقدرة وغيرها؛ إذ مرجع حقائقها إلى الوجود الحقيقي. ويدلّ صفاته على أفعاله كوحدته وبساطته. ومبدعيته تدلّ على عالم الإبداع. وتماميّة وجوده العميم على دوام الفيض والتكوين إلى غير ذلك.

ولمّا رجعت حقائق الصّفات إلى الوجود، كانت مثله في كلّ بحسبه؛ ففي الأجسام ضعيفة كوجودها كما قال تعالى: (وإن من شيء إلاّ يسبح بحمده ولكن لا يفقهون تسبيحهم)، بناء على قراءة (يفقهون) بياء الغيبة؛ وفي المجرّدات قويّة كوجودها.

والذي أراه  دليلاً على أنّ الوجود في أيّة مرتبة كانت عين الصّفات، أنّ الوجود سنخ واحد، وكنوع فارد.

وفي النفوس النّاطقة التي هي أدنى المفارقات في الابتداء، وجودها عين علمها بذاتها؛ لأنّه حضوريّ، وعين إرادتها وعشقها لذاتها ولقواها وتوابع ذاتها، وعين حياتها وقدرتها على انبعاث القوى، وعين نوريّتها، وعين تكلّمها وناطقيّتها إلى غير ذلك. منه.

([34]) وهو قسمان:

أحدهما، وجوده في العقل التفصيلي الذي يقال له «القلب» لوقوع التعاقب فيه.

وثانيهما، وجوده في العقل البسيط الخلّاق للتّفاصيل بقوّة أحسن الخالقين. وفيه السّماء والأرض والماء والنّار وغيرها من المتخالفات موجودة بوجود واحد، وهو كمقام تصالح الأضداد في الوجود، وكلّ واحد منها في العقل كما في الخيال سماء وأرض وغيرهما بالحقيقة لا بالمجاز، بل هي أحقّ بإطلاق أسمائها عليها ممّا في عالم الطبيعة؛ لأنّ ما في العالم محفوفٌ بعوارض أجانب وغرائب عنها، وممنوّ بأعدام وظلمات وسيلان ودثور، بخلاف ما في عقلك فإنّها حقائق الأشياء وصرفها وكذا ما في الخيال أدوم وأبسط ممّا في المادّة، إلاّ إنّ النّفس لمّا كانت شديدة الالتفات إلى الخارج، وجعلتها مرآة اللّحاظ لجزئيات ماديّة لا ملحوظات بالذات وحسبتها شيئات ماهيّات، تراءت مفهومات ضعيفة. منه.

([35]) الظاهر زيادتها إن كانت متعلقة بالفعل «نسبت»، أو هي: مما إليه.

([36]) بحار الأنوار 4: 159، مرآة العقول 1: 287، 305، تفسير الثعلبي 1: 6.

([37]) الفصول المهمة 1: 163. بحار الأنوار 66: 293.

([38]) مع كونها كيفيات في نظر آخر؛ ومن هذا ظهر معنى قولنا: «العقول الكليّة موجودة بوجود الله باقية ببقاء الله». واستصعب فهمه بعضٌ من العلماء وقال: «يلزم أن تكون هذه واجبة الوجود بالذات». والعجب أنّه لم يفهم هذا، وتصدّى للرّدّ على صدر المتألهين+ حيث يقول: إنّها باقيةٌ ببقاء الله لا بإبقائه، حيّة بحياة الله لا بإحيائه؛ لأنّها من صقع الرب، إنما الباقي بالإبقاء والحيّ بالإحياء ما سواها من الممكنات والموجودات الطبيعيّة، مع أنّ هذا شيء يقوله كثير من أهل النّظر والبحث فيما سواها؛ فإنّ من يقلْ: وجود الممكنات بالانتساب إلى وجود الله تعالى، وإنّ وجود زيد إله زيد، يقلْ: إنّها موجودة بوجود الله تعالى. منه.

([39]) الكافي 1: 144. المحتضر: 229.

([40]) البقرة: 155.

الكاتب الملا هادي السبزواري

الملا هادي السبزواري

مواضيع متعلقة