شرح دعاء الصباح 5- القسم الثالث

img

(5) ﴿وَأتْقَنَ صُنْعَ الفَلَكِ الدَّوّارِ في مَقادِير تَبَرُّجِه﴾

والطبيعة والنّفس المنطبعة لابدّ لهما من جسم تسري وتنطبع فيه وراء الأجسام الثمانية؛ لأنّها مَحالٌّ لطبائعها، ونفوسها المنطبعة فيها المخصّصات لحركاتها الخاصّة. ولا يمكن في الجسم البسيط الإبداعي حلول مبدأي ميلَيْن متضادَّين، ونفسين منطبعتين، فثبت جسم تاسع هو جسم الكلّ، وفلك الكلّ. وبإبطال المبادئ والقوى يؤول أمر تلك النفس الكليّة الّتي احتملها إلى العقل؛ هذا خلف هذا. وقس إتقان صفات الفلك الّتي لم نذكرها على الّتي ذكرناها.

و«التّبرّج» إظهار الزّينة كما في قوله تعالى ﴿وَلَاتَبرَّجْن تَبرُّجَ الجاهِليّةِ([18]). وجميع ما ذكرنا ـ مع أنّه بالنّسبة إلى ما لم نذكر قليلٌ من كثير، وحقيرٌ من خطير ـ مقادير تزيين الفلك بعناية الحكيم العزيز القدير، قال تعالى: ﴿وَلَقد جَعَلْنا في السَماء بُرُوجاً وَزَيَّناها لِلنّاظِرينَ([19])، وقال أيضاً: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَا السماء الدُّنيا بِمَصابيحَ([20]). وكم من آيات كثيرة فيها تفخيمُ أمر السّماء وتبجيلُ شأنها!

نعم، هو مظهر ديمومة الله تعالى وفعاليّته وتربيته، وهو معدن ذكر الله والبيت المعمور بعبادة الله، كما قال×: «أطَّتِ السَّماءُ([21]) وَحَقٌّ لَها أنّ تئطّ؛ ما فيها مَوضعُ قَدَم إلّا وَفيه مَلَكُ راكِعٌ أو ساجِدٌ»([22]).

وفي ذكر «التبّرج» إيهامٌ؛ إذ له معنى قريب بمعونة إرداف الفلك، وهو كونه ذا برج، ومعنىً بعيد وهو ما مرّ، واُريدَ به البعيد. ولو قيل: إنّ المعنيَيْن متساويان في القُرب والبُعد، كان من باب محتمل الوجهَيْن المسّمى عند البديعييّن «بالتوجيه».

وبيان كون الفلك ذا بروج: أنّ منطقة فلك الثّوابت المسمّاة «بمنطقة البُروُج» لمّا كانت مقاطعة لمنطقة الفلك الأعظم المسمّاة «بمعدّل النّهار»، كانتا لا محالة متّحدتَيْن في نقطتين مسمّاتين بنقطتي: «غاية القرب»، وبنقطتي: «الاتّحاد»، وبنقطتي «الاعتدال». أحدهما: نقطة «الاعتدال الربيعي»، والأُخرى: نقطة «الاعتدال الخريفي». ومتباعدتَيْن أيضاً بنقطتَيْن، هما نقطتا: «غاية البعد»، ونقطتا: «الانقلاب». تسمّى أحدهما نقطة «الانقلاب الصّيفيّ»، والأُخرى، نقطة «الانقلاب الشَّتَويّ».

وبهذه النَّقاط الأربع انقسمت منطقة البُروج أرباعاً، ثم كلّ ربع انقسم بحسب القرب من غاية القرب، والقرب من غاية البعد، والتوسّط بين الغايتين إلى أقسام ثلاثة، والمجموع اثنا عشر قسماً. ثمّ اعتبروا ستّ دوائر عظيمة مارّة على النقاط الاثنتي عشرة، تمرّ كلٌّ من الدّوائر على قطبَيْ منطقة البروج. فجاء جميع الأفلاك بالسّطوح الوهمية النّفس الأمريّة للدّوائر السّتّ اثنتي عشرة حصّة، تسمّى كلّ حصّة بُرجاً طولُه ثلاثون درجة، وعُرْضُه مئة وثمانون درجة من القطب الجنوبي إلى القطب الشّمالي.

 والبروج الّتي إذا كان الشمس فيها بحركتها الخاصّة كانت الشمس في شمال المعدّل، سُميّت: «شماليّة» والّتي إذا كانت فيها كانت في جنوبه سمّيت: «جنوبيّة».

إعلامٌ وَلَوِيٌّ لتأويل سماوِيًّ

اتقن صنُع فلك الولاية، فجعل لشمس الوصاية فيه اثني عشر برجاً هي الأئمة الاثنا عشر الذين هم عدد حروف «لا إله إلّا الله»([23])، وكذا عدد «محمد رسول الله»، ووجُود الإمام الهمام الثاني عشر (عليه وعلى آبائه السّلام) بمنزلة برج الحوت الّذي هو ثاني عشر بروج فلك عالم الظاهر([24]). ومن هنا ظهر سرّ ما ورد في الأخبار: «إنّ الأرض تقوم على الحوت»([25]).

وهنا تأويل آخر مأخوذ من حديث شريف هو: «إنَّ الله تعالى خَلَق اسماً بِالحرفِ غير مُصوَّت»([26]) الحديث، ذكرته في شرح الأسماء([27]) المعروفة بالجوشن الكبير عند شرح الاسم الشريف أعني: «يا من جعل في السّماء بروجاً»، من أراد، فليرجع إليه.

 __________________________________________

([18]) الأحزاب: 33.

([19]) الحجر: 16.

([20]) الملك: 5.

([21]) إذ مبادئ الحركات والأشواق، ومبادئ الإدراكات سارية ومنطبعة في كلّ أجزائها وجزئيّاتها، ومن ورائها المفارقات المتعلّقة والمرسلة، والكلّ مسخّرات بيد الله تعالى.

ولركوعها وسجودها حقيقةٌ وصورة، فحقيقتهما إنقيادها وتسخّرها له. ورُبّ سجود وركوع صوريّ لا انقياد فيهما فليسا حقيقّيين. وأمّا صورتها، فلأنّ لكل معنى صورةً، ولكلّ حقيقة رقيقةً فلكل ملك حقيقةٌ ورقيقةٌ وروحٌ وشبحٌ، فذلك المعنى لمعنى الملك، وروحه وصورته لصورته؛ فلذلك المعنى تمثّل في عالم الصّور الصرفة بصور ملائكة راكعة وساجدة؛ فلا تهمل شيئاً من العالمين. منه.

([22]) عوالي اللآلي 4: 107. شرح نهج البلاغة 1: 94.

([23]) اقتباس من الزّيارة الجوادية للحضرة الرّضويّة: «السّلام على… عدد حروف لا إله إلّا الله في الرّقوم المسطّرات». وفيها أيضاً: «بهم سكنت السواكن وتحرّكت المتحرّكات». ويوافقه ما في الزيارة الجامعة المعروفة [بحار الأنوار99: 55،54/ 11، باختلاف]. منه.

([24]) شرح الأسماء الحسنى 2: 11.

([25]) أي الأرض وسكّانها قائمة على وجود القائم الذي هو ثاني عشر بروج الولاية، كما أنّ برج الحوت ثاني عشر بروج الفلك. ووجوده× يقوم بالقيّوم تعالى شأنه، ولولا القائم «لساخت الأرض بأهلها» [الكافي1: 534/17، الاستنصار(الكراجكي): 8]. وكأنّه شمس واحدة سائرة في بروج الولاية، وقد ورد: أنّ الأئمة^ نور واحد [في الأمالي (الصدوق): 307/351 قوله‘: «خلقت أنا وعلي من نور واحد»]. منه.

([26])  الصحيفة السجادية الجامعة 268/ الدعاء: 132.

([27]) الحكمة المتعالية 8: 303. شرح الأسماء الحسنى 1: 8، و 2: 11.

الكاتب الملا هادي السبزواري

الملا هادي السبزواري

مواضيع متعلقة