شرح دعاء الصباح 5- القسم الثاني

(5) ﴿وَأتْقَنَ صُنْعَ الفَلَكِ الدَّوّارِ في مَقادِير تَبَرُّجِه﴾
وأمّا الصّفةُ، فلأنّ حركته أتمُّ الحركات وأقدمُها وأدومها:
أمّا إنّها أتمُّ؛ فلأنّ كلّ حركة هناك لا تقبل السّرعة والبطء والزّيادة والنّقصان كالّدائرة بخلاف الخطّ المستقيم مثلاً.
وأمّا إنّها أقدمُ؛ فلأنّها راسمةٌ للزّمان الذي لا يتقدّم عليه شيء تقدّماً زمانيّاً، والسّابق عليه هو الباري وأسماؤه.
وأمّا إنّها أدومُ؛ فلأنّها رابطة الحوادث إلى القديم، فلا تنقطع إلّا إذا انقطع الفيض، وفيض الله لا ينقطع، وسيبُه لا ينبتُّ، ونوره لا يأفل([10])، وقدرته لا تملّ ولا تكلّ. وأنّ وضعه أجدى الأشياء نفعاً وأكثرها أثراً، فإنّ الله سبحانه جعل الأمور الأرضيّة منوطةً بالأوضاع السّماويّة، وأوضاعُ ثوابته([11]) كلٌّ مع الآخر أدومُ الأوضاع وأثبتُها. وأنّ شكله أفضل الأشكال فإنّ الشكل الكرويّ أفضل الأشكال حيث إنّه ببساطته ووحدته يحاكي عالَم الوحدة والبساطة، وبعدم انتهاء سطحه ـ حيث إنّ نهاية السّطح هي الخطّ، ولا خطّ بالفعل في الكرة ـ يحاكي عدمَ نهاية علم الله وقدرته وكلماته. وباستواء نسبة مركز الكرة إلى جميع أقطارها، وكون كلّ([12])موضع من محيطها وسطاً، يحاكي استواءَ نسبة الرّحمن إلى الكلّ.
وأيضاً الشكل الكُرويّ أصونُ عن الفساد؛ ولذا كان الفاعلون بالصّناعة إذا قصدوا صيانة مصنوعاتهم عن الضّياع جعلوها كرات. قال تبارك وتعالى: ﴿وجَعَلْنا السَّماءَ سَقْفاً مَحفُوظاً﴾([13])، وقال: ﴿وَبَنَينا فَوقَكُم سَبعاً شِداداً﴾ ([14]).
وأنّ أينَه أعلَى الأيون؛ وأن كيفه ـ كميله([15]) وإرادته وعلمه ـ أجلّ الكيفيّات؛ وأنّ كمّه المتّصل أصحّ الكمّيات وأمثلها؛ إذ لا يسوغ عليه النّمو والذبول والتخلخل والتكاثف، بل كلّ فلك وفلكيّ إذا جعَلَها الجاعل الحقّ تعالى جعَلَها متقدّراً بمقداره الّلائق به؛ وأيضاً كمُّه أعظم الكمّيات. وكيف لا، وكثيرٌ من الكواكب أضعافُ أضعاف الأرض، فضلاً عن نفس الأفلاك؟ وأنّ كمَّه المنفصل أكملُ الكميّات المنفصلة، فإنّ عدد الأفلاك تسعة، والتسّعة أُصول العدد؛ ولذا كان الأرقام تسعة لا غير. والتسّعةُ عدد أرقام آدم هكذا 441، وجمع العدد من واحد إلى تسعة خمسة وأربعون وهو عدد آدم، وآدم هو النّوع الأخير الّذي هو كمال الأنواع، فالكامل للكامل.
وأمّا أنّ عدد الأفلاك تسعة لا أكثر ولا أقّل، فهو منهج التحقيق الحقيق بالتّصديق، وإن تفوّه بعض العلماء بغير ذلك.
أمّا في جانب الكثرة فربما ينسب إلى الشّيخ الرئيس أبي عليّ بن سينا أنّه احتمل أن يكون الثّوابت كلّاً في فلك، لكنّه باطلٌ؛ لأنّه إمّا أن يكون كلّ واحد منها متحركاً بذاته فيكون انقضاء حركة الكلِّ في زمان واحد، وهوخمسة وعشرون ألف سنة ومئتن على سبيل الاتّفاق، مع أنّه لا نظام في الاتفاقات. وكيف يتساوى الكلّ في الحركة وهي مختلفةٌ عظماً وصغراً لإحاطة بعضها ببعض، ومختلفةٌ نوعاً؛ إذ الأفلاك والفلكيّات لا يوجد فيها نوعٌ متّفق الأفراد، بل كلّ نوع منحصر في شخص، وإمّا أن يكون الكلّ متحرّكاً بالتّبع لفلك أعلى منها ولم يكن لذواتها حركةٌ بالذّات. وكيف يكون([16]) هذا، وما بالعرض لابدّ أن ينتهي إلى ما بالذّات كما في حركات الأفلاك الثمانية من المشرق إلى المغرب بتبعيّة الفلك الأطلس؟
وأمّا في جانب القلّة، فقد احتمل المحقّق الطوسي+ أن تكون الأفلاك ثمانيةً، وتكون الحركة السّريعة بنفس تحرّكها هذه الحركة، وهذا أيضاً باطلٌ؛ إذ ليس لمجمُوع الثمانية وجودٌ آخر في الخارج وراء وجود كلّ واحد، فلا نفس أُخرى له وراء نفس كلّ واحد الّتي تُحرِّكُها الحركاتِ الخاصّةَ. وهل يكون لمجموع رجل وفرس وثور مثلاً نفس أُخرى وراء النفوس الثلاث المتعلّقة بها؟ وأيضاً كيف يُحرّك النفس الكليّة المجرّدةُ الجسمَ، والفاعل المباشر للتحريك مُطلقاً هو الطبيعة؟ والحركة الجزئيّة لا تستقيم([17]) بالتّصور الكلّي والإرادة الكليّة من دون مخصّص جزئي كتصوّر جزئي خياليّ، وشوق مخصوص منبعث من نفس منطبعة جزئيّة، وإلّا لزم التخصيص بلا مخصّص، فلم تتحقّق الحركة الجزئيّة.
_______________________________________________
([10]) فإنّ نوره في لسان الإشراقيّين هو الأنوار القاهرة مطلقاً، والأنوار الإسفهبديّة الفلكيّة والأرضيّة، وهي نوره الفعلي ولا أقول له؛ فكيف لنوره الذّاتي. والنور الإسفهبديّ الذي هو النّفس النّاطقة، قديم بالزّمان باعتبار ذاته وباطن ذاته عند الأفلاطونيين. وما ثبت قِدَمِه، امتنع عدمه. وفي الحديث: «خلق الأرواح قبل الأجساد بألفَي عام». [المسائل المرؤية: 53، معاني الأخبار: 108/1، مناقب آل أبي طالب2: 179]. ولعلّ الألف رتْب طولي، لا زماني عرضيّ. وعندنا: نوره حقيقة الوجود الآبية عن العدم. ومن أسمائه الحسنى: «يا من له نور لا يطفا». وقال تعالى عن خليله: ﴿لا أُحِبُّ الآفِلِينَ﴾، أي الكوكب آفل، وربّي ليس بآفل، فالكوكب ليس بربي. وفي الدّعاء: «يا نور كلّ نور، يا نوراً قبل كلّ نور، يا نوراً بعد كلّ نور، يا نوراً فوق كلّ نور، يا نوراً ليس كمثله نور». [المصباح (الكفعمي) : 253].
وقال العارف:
قرنها بر قرنها رفت اى همام شد مبدّل آب اين جو چند بار |
وان معانى بر قرار و بر دوام عكس ماه وعكس اختر برقرار |
منه.
([11]) حتّى إنّها سمّيت «ثوابت»؛ لهذا، ولبطء حركتها بالنسبة إلى السيّارات. فالأفلاك والفلكيات بديمومتها وديمومة أوضاعها مظاهر دوام الله، وتذكر بألسنة وجوداتها: «يا دائم، يا قائم، يا حيّ، يا قيّوم» وغيرها من الأسماء الحسنى التي هي مجالي ظهورها. منه.
([12]) وأيضاً يحاكي بهذا خيريّة الوجود؛ لأن الوجود مطلقاً خير وحسن. ويحاكي حسن صنيع الله في كل وجود مجعول من حيث هو وجود مرقوم بقلمه الأعلى.
والوسط، هو الفاضل، كما قالوا: «خير الأمور أوسطها»، و﴿الصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ هي الأفضل منها. منه.
([15]) الظاهر أنه يريد بها: الرغبة أو الإرادة، فهي فارسية هنا.
([16]) أي كون الكلّ متحركة الحركة البطيئة فلك أعلى محيط بالكلّ، ولم يكن لذواتها حركات خاصّة؛ إذ لا داعي إلى القول بالتعدّد حينئذٍ. والذي دعاهم إلى القول بتعدّد الأفلاك التسعة وجدانهم حركات مختلفة ذاتية؛ وأيضاً فصل الفلك المأخوذ في حدّه أنّه مبدأ ميل مستدير. والحركة المستديرة آبية عن السّكون بالذات، كما عن الحركة المستقيمة، والميل المستقيم. منه.
([17]) فإن المدرك للكلّي مجرّد، والمجرد نسبته إلى الجزئيات على السواء، فالإنسان إذا أراد الحجّ مثلاً فعاقلته يتصوّر الذّهاب الكلّي إليه، وينبعث منه الميل الكلّي، ولو تصوّر طريق البرّ أو البحر كان كليّاً أيضاً. وأمّا الذهاب الجزئي في وقت خاصّ ومسافة خاصّة وغيرهما، فيحتاج إلى قوى مدركة جزئيّة، ومحرّكة. جزئية يتصوّر الوقت الخاص والمسافة الخاصة وبلداً بلداً.(بلد بلد م) وخطوة خطوة، وينبعث منها ميول خاصّة، وتخيّل مرجّحات مخصوصة، ولولا القوى الجزئية ومدركاتها الجزئية، لم تتأتّ الحركات الجزئية من بين أمثالها وصنوفها. منه.