شرح دعاء الصباح 5- القسم الأول

(5) ﴿وَأتْقَنَ صُنْعَ الفَلَكِ الدَّوّارِ في مَقادِير تَبَرُّجِه﴾
إنّما سُمِّي الفلكُ فَلَكاً تشبيهاً بفلكة المغْزل في الدَّوَران، وفي أن يكون له المنطقة والمحور والقُطبان. والفُرسُ أيضاً سمّوه «آسمان» تشبيهاً له بالرّحى؛ لأنّ «آس» بلغتهم الرّحى، و«مان» كلمة التّشبيه.
والله سُبحانه أتقن صُنع الفلك ذاتاً وصفةً:
أمّا الذّاتُ؛ فلأنّ مادّته أقوى من المادّة العنصريّة، حيث إنّ مادة الفلك مخالفة بالنّوع لمادّة العناصر، بل المواد العشر للعوالم العشرة متخالفاتٌ بالنّوع، ونوعُ كلّ واحدة منها منحصر في شخص؛ فالمادّة العنصريّة لضعفها مشتركةٌ بين العناصر، والمواليد تخلع صورةً منها وتلبس أُخرى. والمادّة الفلكيّة لقوّتها يتأبى كلّ نوع منها عن قبول غير صورتها ولا تخلّى سبيلَها. وصورته أحكم الصّور؛ إذ لا تقبل الانقلابَ والكونَ من شيء، والفسادَ إلى شيء، وإن قبل الوجودَ الاختراعي والفناءَ المحض([1]) والطّمس الصّرفَ: ﴿كُلُّ شَيْء هَالِكٌ إلّا وَجْهَهُ﴾([2])، ﴿وَالسَّمواتُ مَطوِيّاتٌ بِيَمينِهِ﴾([3]).
ولا تقبل القَسرَ والتّضادّ لتفسد بحلول الضدّ وطُرُوِّهِ في موقع الضدّ الآخر؛ ولذا لا شرَّ ولا ضرّ هناك، ولا تركيب فيها؛ حتّى تدخل تحت قاعدة «كلّ مركّب ينحلّ».
ونفوسُه أشرف النفوس الأرضيّة من حيث هي أرضيّة؛ لأنّ نفوس الأفلاك ملائكةٌ مشتاقون لقاء ربّهم الأعلى، ومن زمرة ﴿الْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾، كما أنّ عقولَها ملائكةٌ مقرّبون، عشّاقٌ إلهيّون، ومن زمرة ﴿الصَّافَّاتِ صَفًّا﴾. فليس الباعث على تحريك تلك النّفوس أمراً شهويّاً، أو غضبيّاً كجلب مُلائم بدنيّ، أو دفع مُنافر بدنيّ؛ لبراءتها عنهما، فوجودُ الشهوة والغضب فيها معطَلٌ عبث؛ ولا نفعَ السّوافل بالذّات؛ إذ لا التفات للعالي إلى السّافل بالذّات، فتحريكُها لأجل أمر عقلّي عظيمِ الخطر جليلِ الشّأن، وهو التخلّقُ بأخلاق الملائكة المقرّبين من العقول التسعة، كما أنّ غرض النفوس القدسيّة الناطقة المستكمِلة الأرضيّة في حركاتها العلميّة والعمليّة هو التخلّقُ بأخلاق روح القدس من العقل العاشر.
والعقول لما كانت من صقع الرّبوبيّة، وأحكام السّوائيّة من المادّة ولواحقها ـ ولو كانت المادّة بمعنى المتعلّق، فيها مستهلكةٌ([4])؛ لأنّها قدرة الله ومشيّة الله، وكالمعنى الحرفي بالنّسبة إليه ـ كانت النفوس الفلكيّة في الحقيقة عشّاقاً لله، راجين لقاءه، متواجدين في عشق جماله وجلاله؛ هذا بلسان؛ ونُسّاكاً إلهيّين وعُبّاداً ربّانيّين حول كعبة وصاله، هذا بلسان آخر. قال المعلّم الثاني: «صلّت السّماء بَدوَرانها، والأرضُ بَرجَجانها، والماءُ بسَيَلانه، والمطرُ بَهطَلانه، وقد يصلّى له ولا يشعر: ﴿وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ﴾([5])»([6]).
وفي كون الأفلاك ذوات نفوس قولان:
أحدهما: أنّ لكلّ كرة في فلك نفساً.
وثانيهما: أنّ النّفس للفلك الكلّي، والأفلاكُ الجزئيّة والكوكبُ فيه كالآلات. وما يقال: إنّه يستفاد من بعض الأخبار أنّه لا حياة للأفلاك، وأنّها كالجمادات، فليس كذلك. ولو دلّ بظاهره لكان فيه إشارةٌ إلى أنّها بمقتضى التّوحيد حياتُها مُستهلكةٌ([7]) في حياة الله تعالى، كما أنّ إرادتَها مُستهلكةٌ في إرادته، وفعلَها في فعله، وأحكامُ الظاهر غالبةٌ على أحكام المظهر بخلاف العنصريّات، فينعكس الحكم هاهنا إلّا أنْ تشابه الفلك والمَلَك، فالحكم الحكم. وكفى في ذلك قولُ سيّد السّاجدين وزين الموحّدين علي بن الحسين× مخاطباً للهِلال: «السَّلامُ عَلَيكَ أيَّهُأ الخَلقُ المُطيعُ الدّائبُ في فَلَكِ التّقَدِيرِ»([8]). ونِعْمَ ما قيل:
از مَلَك نُه فلك چو گردانست عرش وكرسى وجِرمهاى كُرات خنفسا ومگس حِمار قَبان |
مَلَك اندر تن فلك جان است كمترند از بهايم وحشرات؟! همه با جان ومهر ومه بيجان؟!([9]) |
_______________________________________________
([1]) إذ في القيامة الكبرى يتلاشى ويضمحلّ وجودات الكلّ تحت وجود الواحد القهّار، ويعود الوجود إلى الله، ويسقط إضافة الوجود إليها، فيقبض حياة الملك حتّى «إسرافيل» و«جبرائيل» و«عزرائيل» وغيرهم فضلاً عن الفلك، كما يعود وجود كلّ القوى والمدارك بعد خراب البدن إلى النّفس النّاطقة، فإنّ النفس أصلها وبدوّها، كما أنها غايتها ومرجعها. منه.
([4]) ومن الحجب العظيمة: المكان والزّمان، وملزومه الذي هو الحركة، وهي مناط الغيريّة والسّوائيّة بحيث عرّف فيثاغورس الحركة بالغيريّة؛ اذ يؤكد غيريّة الحوادت الكائنة مع عالم العقل الذي هو حاقّ نفس الأمر. وكلّ هذه مرتفعة عن عالم العقل، فكلّ من العقول كأنّه يقول: «من رآني فقد رأى الله» كما قال ذلك سيّد العقول الكليّة في السّلسلة الصّعوديّة بخلاف الممكنات بالإمكان الاستعدادي، المتحجبة المشوبة بالتباعد المكاني، والتّمادي الزماني، والطبع السّيلاني، والوغول الهيولاني؛ فانّها من صقع الموادّ، وأحكام السّوائية عليها غالبة، سيّما إن قلنا بتجرّد عالم العقل عن الماهيّة، وانّ إمكانها مجرّد الفقر إلى الله تعالى. منه.
([6]) الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة7: 278، المبدأ والمعاد: 237، ونقل طرفه فقط.
([7]) فليس لها إلاّ مجلويّة حياة الله وإرادته وقدرته، اذ لا إرادة لها مخالفة لإرادته، ولا مشيّة لها غير مشيّته: ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾، وأمرُ الله تعالى إرادته، ونهيه كراهته، وكذا إرادته أمره التكويني؛ إذ لها درجات. منه.
([8]) الصحيفة السجادية الجامعة/الدعاء: 110. الأمالي (الطوسي) : 495 / 1086. بحار الأنوار 92: 344 / 4 ،93: 379 / 4.