شرح دعاء الصباح ٣-القسم الاول

img

قال عليه السلام:

﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾

(3) ﴿يا مَن دلعَ لسانَ الصّباح بنطقِ تبلُّجِهِ﴾

في بعض النّسخ: «اللهمّ يا من دلع». «اللهمّ» أصله «يا الله»، فالميم عِوضٌ عن «يا»؛ ولذا لا يجتمعان. وقيل: أصله «يا الله اُمّنا بالخير» أي اقصدنا به، فخفّف بحذف النّداء ومتعلّقات الفعل والهمزة.

وعلى أيّ تقدير، فهو مجملٌ يفصّله الأوصاف التي بعده، فيكون فيه إشارةٌ إلى مقامَي التّفصيل في الإجمال، والإجمال في التّفصيل، والكثرة في الوحدة، والوحدة في الكثرة.

و«الله» أصله «¡»؛ لمناسبة أنّ الدائرة أفضل الأشكال وأصلها([1])؛ وأنّه لا نهاية لها؛ لأنّ تناهي الخطّ بالنّقطة، وأنّ البدء والختم فيها واحد. وقد تكتب بالدّائرتين إشارةً إلى الجمال والجلال. وقد تكتب بدائرة واحدة إشارةً إلى اتّحاد صفاته تعالى.

هذه هي المناسبة بحسب الرّسم، وأمّا بحسب اللّفظ والنّطق، فلأنها الجارية([2]) على أنفاس الحيوانات كلّها سواء كانت أهل الذّكر والعلم بالعلم التركيبي([3])، أو لا، بل بالعلم البسيط. ثمّ اُعرب بالضّمة إشارة إلى ترفّع المسمّى تعالى شأنه. ثمّ تارة اُشبِعَ إشارةً إلى أنّه فوق التمام، وأنّه فوق ما لا يتناهى بما لا يتناهى عدّةً ومدّةً وشدّة، فصار «هو» ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ([4])، وتارة اُلحق لام الاختصاص والتّمليك، فصار «له»، فـ﴿ـَلَهُ الْخَلْقُ وَ اْلأَمْرُ([5])، ثمّ، اُشبع فتح اللّام إشارةً إلى أنّ من عنده الفتوح التّام، فصار «لاه»، ثمّ اُلحق لام التعريف إشارة إلى تشخّصهَ الذّاتي ومعروفيته لما سواه، كما قال تعالى: ﴿أَفِي الله شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ([6]) فصار «الله».

وفي هذا الاسم الأعظم أسرارٌ لا تحصى.

وكلمة «يا» هي «هو»؛ لأنّ كلّ واحدٍ منهما أحد عشـر، والعدد روح والحرف جسد، فهو سارٍ في جميع الأسماء المفتتحة بها، وهي التي في التركيب الأبتثي خاتمة الحروف، فجعلت فاتحة الأسماء التي هي مفاتيح الغيب، وفواتح الأشياء وأقدمها، إشارةً إلى أنّ الأوّل هو الآخِر والآخِر هو الأوّل؛ كما اُشير إلى هذه الدّقيقة في بيّنة الياء التي هي آخر الحروف الهجائيّة، فجاء آخرها الألِفُ كما أنّ أوّلها الألِف.

ثمّ، إنّ زُبرها العـشرة([7]) التي هي المراتب الخمس في قوس النّزول والمراتب الخمس في قوس الصّعود؛ ولذا تكتب بصورة قوسين. وجامع العشـرة الكاملة هو الإنسان؛ فزُبر الياء وظاهرُها العشرةُ التي هي شرح الإنسان الكامل الذي هو شرح الاسم الأعظم، بل هو عين الاسم الأعظم. وفي الوحي الإلهي: ﴿يس﴾، والسّين([8]) حرف الإنسان لكونها ميزان الحروف لمعادلة زُبرها وبيّنتها؛ حيث إنّ كلاً منهما ستّون. وهذا من خاصيّة هذا الحرف العليّ؛ والإنسان الكامل ميزانُ الله تعالى؛ لمعادلة قوّتيه ـ العلامة والعمّالة ـ ولمعادلة مجمله([9])مع مفصّله الذي هو العالم الكبير. وقد ورد أنّ الميزان هو أمير

 المؤمنين علي عليه السلام.

و«مَن» موصوفة أو موصولة، والثاني أليقُ ليكون تنبيهاً على أنّه تعالى هو المعروف بتلك الصّلات والصّفات عند الفطرة الأُولى([10]) التّي فطر الناس عليها، فلا تذهب العقول إلى غيره تعالى، حتّى عقول الكفّار كما قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَاْلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ([11]). وحين قال الخليل عليه السلام: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ([12]) لم ينكره نمرود بل بُهتَ؛ لأنّ فطرته حاكمة بأنّ القادر على ذلك ليس إلّا هو.

و«دلع لسانه» و«أدلعه»: أخرجه. وتشبيه الصباح في النفس بالشخص المتكلّم استعارة مكنيّة، وإثبات اللّسان الذي هو من ملائمات المشبّه به استعارة تخييليّة، كما في قوله:

وإذِ المنّية أنشبت أظفارَها

  ألفَيتَ كلّ تميمة لا تنفع([13])

والمراد بـ«لسان الصّباح»: إمّا الشّمس عند طلوعها، وإمّا النور المرتفع عن الاُفق قبل طلوعها، ويقال له: عمودُ الفجر، والفجرُ المستطيل.

و«بلج» الصبح: أضاء وأشرق كانبلجَ وتبلَّج وأبلَجَ. وكلّ متّضح أبلجٌ، ورجلٌ بَلجٌ: طَلِقَ الوجه. ويقال لنقاوة ما بين الحاجبين: البلج، ومنه قول الحريري: «والذي زيّن الجباه بالطّرر، والعيون بالحور، والحَواجبَ بالبَلَج، والمباسِمَ بالفَلَج»([14]).

والباء في «نُطق» للملابسة. والجار والمجرُور حالٌ من اللِّسان. وإضافة النطق إلى التّبلّج بيانيّة أو لاميّة، أو من قبيل «لُجَيْن الماء»([15])  في قوله:

وَالرّيح تَعبثُ بالغُصُون وقد جرى

  ذَهَبَ الأصيل على لُجين الماء([16])

والضمير لـ«الصباح»، ويمكن أن يكون لـ«من دلع»، وكذا الضّمائر التي بعده: بأن يكون الإضافات من باب الإضافة لأدنى ملابسة، وهو كون المضافات معاليل الله تعالى والملك لله، كقوله تعالى: ﴿وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ([17])، على أن يكون المراد هو النّفس الكلّية، لا على أن يطلق النّفس على ذات الله تعالى من باب صنعة المشاكلة، أو يكون الإضافة هنا من إضافة المصدر إلى المفعول، أي بناطقيّته لأجل إشراقه الحسّي بإشراق الله المعنوي، فإنّ ﴿اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَاْلأَرْضِ([18]) نوراً عينيّاً قيّوماً مقوّماً للأنوار المجردّة القاهرة. والأنوار الإسفهبديّة([19]) الفلكيّة والأرضيّة والأنوار العرضيّة الشمسيّة والقمريّة والنجوميّة والسُّرجيّة، كلُّها أظلالٌ لنور الله الحقيقي العينيّ القيّومي، دالاتٌ عليه، ناطقاتٌ بتمجيده.

_________________________________________________

([1]) أمّا إنّها أفضل، فلأنّها واحدة بخلاف المضلَّع من الأشكال؛ إذ فيه كثرة لأنّ فيه الخطّ والسّطح والنقطة، بل الخطوط والسطوح والنّقاط. وأمّا أصلها، ففيه تفصيل، وبيانه الإجمالي: أنّه إذا قُسّم محيط الدائرة بأربع نقاط أو أكثر، حصل القوسيّ والهلاليّ ونحوهما، وإذا وصل الأربع بقطرين، حصل أربع قوائم عند المركز، وإذا وصل الضلعان بخطٍ مستقيم يكون وتراً، كان هنا مثلّث متساوي الأضلاع.

وإذا قُسّم بستّ نقاط ووصلت بثلاثة خطوط مارّة بالمركز، بحيث يكون كلّ زاوية ثلثي قائمة، حصل المسدّس بعد أن وصل الأضلاع بخطوط مستقيمة، وإذا وصل النقاط بخطوط غير مارّة بالمركز حصل المربّع.

وأمّا الأشكال المجسّمة فإذا اُدير الدائرة على نفسها حصل الكرة، وإذا ثبت أحد ضلعي المثلث المذكور دائراً بالضلع الآخر الى أن عاد إلى وضعه الأوّل، حصل المخروط، وإذا حُركّت الدائرة طولاً، حصل الأسطوانة، وإذا حُرّك مربّعها المتساوي الأضلاع طولاً، حصل المكعّب، وللتفصيل موضع آخر. منه.

([2]) أي إنّها ذاكرة لله تعالى باسمه الذي هو هو. و«هو» تعبيرٌ عن الوجود البحت بلا تعيّن وصفّي: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾. وقد قلتُ:

دم چو فرو رفت «ها»ست
يعنى ازو در همه

  «هو»ست چو بيرون رود
هر نفسى هاى وهوست

منه.

([3]) العلم التركيبي هو أن يعلم، ويعلم أنه يعلم، وأنّ المعلوم ماذا. والبسيط بخلافه على قياس الجهل البسيط والمركّب. منه.

([4]) الإخلاص: 1.

([5]) الأعراف: 54.

([6]) إبراهيم: 10.

([7]) فإن مجالي الله تعالى من اللاّهوت إلى النّاسوت قسّمت خماسيّاً، وكذلك في السّلسلة الصّعودية فتلك عشرة كاملة، والكلّ منطوية في الإنسان الكامل؛ فقوله تعالى: ﴿يس﴾؛ إمّا يمين بمفصّل الإنسان ومجمله، وإمّا جملة مبتدأ وخبر. منه.

([8]) ومن هنا قيل:

«سين» «انسان» چون كه خيزد از ميان   اول و آخر نماند غير «آن»

فمعنى ﴿يس﴾: أنّ المراتب العشر من الوجود هو الإنسان؛ لأنّها حدّه وشرحه، أو الحرفان مقسَمٌ بهما أي أقسم بالـ«يا» وهي «هو» زبراً وبيّنة، وبالـ«سين» وهو الإنسان الكامل. والمراد «بالقرآن الحكيم» حينئذٍ: القرآن التّدويني؛ لأنّ الإنسان الكامل هو القرآن النّاطق التكويني، والتأسيس خير من التأكيد. منه.

([9]) إذ كلّ ماهو في العالم الكبير فهو فيه بنحو أعلى وأتم:

«وفيك انطوى العالم الأكبر».

ففي العالم ماء ونار وسماء وسماوي إلى غير ذلك، وفي الإنسان الكامل ماء ونار بأضعاف: ففيه مرّة نظيرهما من البلغم والصّفراء، ومرّات عينهما، فتارة فيه المحسوس بالذّات منهما، وتارة فيه المتخيّل بالذّات منهما، وتارة المعقول بالذّات منهما الذي هو حقيقة الكل، والكلّ رقائقه، وهو في وجود الإنسان الكامل الحكيم المطّلع على الحقائق؛ ولهذا يقال في تعريف «الحكمة»: «إنّها صيرورة الإنسان عالماً عقليّاً مضاهياً للعالم العينيّ». ونظير السّماء والسماويّ فيه الرّوح البخاري ونجوم القوى. وأمّا أعيانها، فهي المدركات بالذّات منها في حسّه وخياله وعقله البسيط والتفصيلي، وقس عليها الباقي.

فالإنسان محدود والعالم حدّه، وهو متن والعالم شرحه، وهو لفّ والعالم نشره؛ فمجمله إحدى كفَّتَي الميزان ومفصّله الأخرى، كما أنّ في الاعتبار الأوّل عقله العلميّ إحدى الكفتين وعقله العمليّ هو الكفة الأخرى. منه.

([10]) فإنّ الكلّ مفطور على العلم البسيط به، وإنّ هنا كاملاً خضع الكلّ دونه، وفطروا على محبّته وطلبه. كيف، والكلّ متحرّك إليه، وعاشق للكمال والفضائل والفواضل طرّاً من جنابه: ﴿يَا أَيُّها الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحَاً فَمُلاقِيهِ﴾؟ منه.

([11]) لقمان: 25.

([12]) البقرة: 258.

([13]) خزانة الأدب 1: 401. إحقاق الحق 19: 360.

([14]) مقامات الحريري1: 22/المقامة الرحْبية (نسبة إلى رحبة مالك بن طوق).

([15]) أي من باب إضافة المشبّه به إلى المشبّه، أي ماء كاللّجبين في الصّفاء، وأصيلٌ كالذّهب في الصّفرة، وتبلّج كالنطق في الكشف والتميز. منه.

([16]) شرح الأسماء الحسنى 2: 4. القاموس المحيط 1: 8.

([17]) المائدة: 116.

([18]) النور: 35.

([19]) وهي الأنوار المدبرة، ويُراد بها: النفس الناطقة. مصنفات شيخ الإشراق 2: 147.

الكاتب الملا هادي السبزواري

الملا هادي السبزواري

مواضيع متعلقة