يعرف الرجال بالحق – الجزء العشرون

img

قامت الدنيا ولم تقعد على أيد منافقة مضلة تتحين الفرص لتثير الفتن والزوابع في نفوس ضعيفة،قامت رايتهم الأفاقة تحت مظلة أن الرسول ( ص ) وعدهم وأخلف وعده بالعمرة!! وهاهم بُعيدَ صلح الحديبية يعودون أدراج الرياح بخفي حنين فلا هم اعتمروا ولا صحت رؤيا نبي الإسلام (ص)!فكيف لرؤياه ألا تكون صادقة ؟! معضلة تجاذبتها ضعاف النفوس فما رسوا على بر أمان ولو أنهم ردوها إلى الله ورسوله لسلموا ولطابت أنفسهم ،وخصوصاً أن الله تعالى أنزل في تلك اللحظات المبهمة عليهم بلسماً يداوي جراح ضعفهم وشكوكهم إذا ما رُغِبَ في لئم الجراح، وجبر الصدع، والتسليم والخضوع لإرادة الرحمن وحكمته والصبر على ما لا يُدْرَك آنياً ويقيناً سيُدْرَك لاحقاً،ألم يقل الله تعالى ؛” إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا، وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا، هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا، لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا، وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا”.( الفتح -من ١-إلى -٦)،.

في مثل موقف الرسول (ص)مبعوث السماء ورجل الحق ومنه يستنبط الحق وأفعال الحق ومواقف الحق لابد لنا من استخلاصات بسيطة لنتعرف على رجال الحق ،ولعلنا نعري بها أشباه الرجال والذين يدعون أنهم رجال الحق زوراً وبهتاناً! باستخلاص العبر من مواقف نبي الرحمة الكريم (ص) وأخلاقه الدمثة الصامدة والغير قابلة للتغيير أو التبدل إلا لتتفوق أخلاقياته على ذاتها بالأفضل والأنجع، ألم يقل الرسول الكريم ( ص ):” بعثت لأتمم مكارم الأخلاق “. فحسبه الحكمة سفينته، والصبر والتأني وحبس الآهات من لسعات جمرات ذوي القربى- “إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ”( الحجرات -١٠)- ركائز ودعائم سفينته، وساريته وضاءة ورايته الحق والصدق خفاقة لا تنكسر ولا تنحي فما فتئت بيد الله خفاقة، ومساره (ص) الصراط المستقيم منفرداً أو بصحبة ماجدة من المؤمنين الخلص الذين أدانوا لله ورسوله بالسمع والطاعة على كل حال ، ولسان حاله يتنغم في قوله تعالى :”

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ “.( الفاتحة – من ٥-إلى -٧)، ويصدح فيقول :”فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَىٰ “.(طه-١٣٥ ) .

فلا يحسبن أحدكم أن النبي قيده ربه بالرحمة، بل الرحمة خلجات خالطت دمه ولحمه فتتابعت لتحتضن الإنسان كل الإنسان ،فتحي في طريقها وصالاً قد قطعت بفعل عداوة الآخرين لدينه السامي أو لزلات المتخبطين ، وعجينته النورانية (ص) تسخر الفرص لتنتشل العابر الذي تسلط عليه نور الرحمة فشده لمعرفته أو تبينه،يقول تعالى :” فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ۖ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ، وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا ، وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا ، وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (الجن – من ١- إلى-٥)، كما تعانق كل شاغف للسلام وحسن الجوار والعيش المشترك على أسس الكرامة والمساواة في الحقوق والواجبات مع مراعاة الأُطر السماوية -ولا علاقة للأمر بإيمان من أمن أو كفر وإلحاد من ثبت على جحده وعلى دين الأباء والأجداد الإلحادي متمسك -، وسهام تلك الرحمة ما برحت تصيب عقول وأفئدة لباب العقول وتستثني عامدة ضحايا سهام الشرك الضآل المضلل والمضل فنُبذوا في بيداء الكفر والإلحاد يقلبون كفوفاً خاوية إلا من مصير مظلم ومستقبل خاو إلا من جحود وندم ، يقول تعالى :”آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ “.( البقرة -٢٨٥)، وقال أيضاً :” وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ”.(النساء-٤٦َ )، أولئك الفئة المؤمنة المصاحبة لرسول الله (ص) والتي سمعت وأطاعت سَمَع وعيٍّ وطاعةُ عقلاء نجباء، سمعت وأطاعت بأفئدتها المؤمنة فما بالت بغموض يتبعه نصر مؤكد ، وبدون ذاك النصر لا تتزعزع مضارب إيمانهم ولا إقرارهم بعلل خفية حكيمة لأحداث مبهمة عليهم واضحة المعالم بحِكَمِها ومبرراتها لله ورسوله (ص)وهذا للمؤمنين حق الإيمان كافياً ومطمئناً وباعثاً على الإستفاضة من النور الإلهي والإستظلال بظلال الحكم الالهية “وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا “.(النساء-٧٩).

نصر مؤكد لاحت تباشيره من إسقاطات قريش التي وعدت وعاهدت فما وفت !! فها هي اليوم وبعد مرور سنتين فقط على صلح الحديبية المبرم بين سيد خلق الله محمد (ص) وكفار قريش -والذي على اثره تم الإتفاق على بنود قليلة من حيث العدد كبيرة من حيث المضامين ، والتي بموجبها يلتزم الطرفان بهدنة عشرية الأعوام فلا حروب ولا غزوات ولا إعتداءات مطلقاً البتة، وبموجب الصلح أيضاً يحق للغير أفراداً وقبائل الدخول في حلف النبي وطلب إجارته لمن يشاء، ودون الخوف أو الحرج من ردة فعل قريش أو إنتقامها،وكذلك الحال بالنسبة لقريش والمتحالفين معها أو المستجيرين بها، فالكل في أمان تحت ضوابط بنود الصلح، كما أن للمسلمين الحق كل الحق بالتعبد وممارسة شعائر عقيدتهم بكل أريحية وانسيابية دون حرج ولا خوف ولا أذى من قريش أو من أتباعها أو المستجيرين بها – .

شمرت قريش عن سواعدها بصحبة جارتها قبيلة كنانة والتي تسبب فرد منها بإشعال فتيل النزاع بينه وبين رجل كريم من خزاعة حليفة رسول الله (ص) بهجائه الرسول (ص) وإصراره على مواصلة ذلك! رغم تصلب ذاك الكريم من خزاعة على نهيه إياه عن فعل قد يزعزع أركان الهدنة فما انتهى! وعلى اثرها دب نزاع بينهما تطور بين القبيلتين خزاعة وكنانة والتي لسوء حظ قريش كانت هي الأقوى ! فوصل الصراع بطن مكة فتسابقت شياطين قريش تساعدهم على رجال خزاعة حتى أصابوا فيهم مقتلة ، فتداعت خزاعة إلى رسول الله ( ص ) شاكية وجدها وطالبة نصرته بقول عمرو بن سالم أبيات من الشعر :

يـا رب إني نـاشدٌ محمداً. — حِلْفَ أبـيـنا وأبـيه الأتلدا

قد كنـتمُ ولـداً وكنـا والـدا. — ثَمَّتَ أسلمـنـا فلم ننـزعْ يدا

إن قريشاً أخلفوك الموعدا. —     ونقضوا ميثاقَـك المؤكدا

وزعموا أن لست أدعو أحدا.–   .وهم أذلُّ وأقلُّ عددا

هم بيَّتونا بالوتير هُجَّدا.   —     وقتلونـا رُكَّعـاً وسُجَّدا

وجعلوا لي في كداء رصدا.–   فانصر رسول الله نصراً أيدا

وادعُ عبـاد الله يأتـوا مــددا. —   فيهم رسول الله قد تجردا

إن سِيمَ خسفاً وجهُهُ تربَّدا. —   في فيلق كالبحر يجري مُزبدا

                         وقتلونا ركّعاً وسجّدا”.

فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): “حسبك يا عمرو”.، ثمّ قام فدخل دار ميمونة وقال: “اسكبوا لي ماء”.فجعل يغتسل ويقول: “لا نُصرت إن لم أنصر بني كعب”. ثمّ أجمع رسول الله(صلى الله عليه وآله) على المسير إلى مكّة، وقال: “اللّهمّ خذ العيون عن قريش حتّى نأتيها في بلادها”.

وقبل إتمام المسير مع رسول الله ( ص )إلى مكة فاتحاً ماجداً، لابد من زفرات وعبرات تجد السبيل إلى صدور حرائر المسلمين والعرب، وآهات من حرها تكاد تحرق دموعاً بلغت أخاديدهن نعياً لشرف الأمة المهدور غصباً وطوعاً ! فما حركت ساكناً ولا وردت بخواطر رجال حملوا الإسلام قلادة لأجيال وسنين وتباهوا بحفظ ورواية الأحاديث ،وكانوا ترعاً في مجالس التطبيل والتزمير للدين لقلقة لا أكثر! فأما القلادة فقد كسرت على أعتاب المفسدين في الأرض وأما لقلقتهم فقد بان شؤمها في نحيب لا يسمع ودم سال بحوراً بين مترع ظمأن ثمل بدماء أشقائه ،ونشوان بأخدان وأعراض حرائره لا يمل ولا يصحو ،وبين متفرج ضرجت يداه بدم الحرائر والرضع والفتية والشباب بِصَمتِهِ وجبنه وبنأي النفس والنجاة بها، وبما أمكنه الهروب به من متاع الحياة الدنيا !!هذا ولقد قال أَبُو عَبْدِاللهِ عليه السلام:”كُلُّ رياء شِركٌ، إِنَّهُ مَنْ عَمِلَ لِلنَّاسِ كَانَ ثَوَابُهُ عَلَى النَّاسِ وَمَنْ عَمِلَ للهِ كَانَ ثَوَابُهُ عَلَى اللهِ” .( أصول الكافي ـ المجلد الثاني ـ كتاب الإيمان والكفر ـ باب الرياء ـ ح ٣)،وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: “مَا ذِئْـبَانِ ضَارِيَان فِي غَنَمٍ لَيْسَ لَهَا رَاعٍ هذا في أَوَّلِهَا وَهذا في آخِرِهَا بِأَسْرَعَ فِيهَا مِنْ حُبِّ الـمَالِ وَالشَّرَفِ فِي دينِ المُؤْمِنِ”-٤)نهج البلاغة ـ الخطبة ٥ـ ( الشيخ صبحي الصالح )]، ولقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي (ص) قال:- ” أبغض الناس على الله ثلاث، ملحدٌ في الحرم، مبتغ في الاسلام سنة جاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه “،وجاء عن الإمام الصادق عن آبائه عن رسول الله (ص): “أوحى الله عزوجل إلى موسى ” عليه السلام ” قل للملا من بنى إسرائيل إياكم وقتل النفس الحرام بغير الحق فمن قتل منكم نفساً في الدنيا قتله الله في النار مائة قتلة مثل قتلته صاحبه”.قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :” إِنَّ أَعْتَى النَّاسِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ قَتَلَ فِي حَرَمِ اللَّهِ أَوْ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ أَوْ قَتَلَ بِذُحُولِ الْجَاهِلِيَّةِ “. ( مسند احمد -ج١٤/ص -٦/ -ح٦٤٦٨).

ولكن النفس لا زالت تداعب أوهام الأمل متساءلة هل من مجيب فيُستصرخ؟! أم من دم حر مسلم وربما عربي أبي فيستنهض؟! أم من رافض للذل فينأى بنفسه عن مزالق الشياطين ؟! وربما للحرائر والمظلومين شيباً وشباباً ناصراً يقيم الراية ويعيد مجد الإنسانية إلى سابق عهدها؟! وهل وصل السيل الزبى ؟! أم لتحرك الأحرار أعداداً محددة من أعراض المحصنات وكريمات العرب لابد أن تهتك أولاً قبل أن يستشعر ذاك المتفرج المسلم الخطر؟! دون الرقي به إلى حياء من الله ومن رسوله ومن كريمات أمته فيحرك بعضاً من عضلاته المفتولة الساكنة دهوراً دفاعاً عن بعض من كرامته !! أم أن سلب الحياة من الآلاف من خيرة الفتية وشباب الأمة لا يكفي لإعلان ثورة الغضب لقتل أجيال وأجيال من مستقبل هذه الأمة !! أو أن سلب مقدرات وثروات الأمة وجرفها إلى حافة هاوية مستقبل مظلم يكتنفه الخزي والعار والخوف والغموض ونقص في الثروات والأنفس معطوفاً على سدنة الجبت والطاغوت وأذنابهم ممن لا قلب ولا عقل ولا فؤاد لهم لا يشكل مبرراً للنهوض والإعتراض؟!!

ولنترك الأمة تموج في بحار الحيرة والضلالة ولا استقرار لها بعد !! ولنتمعن معاً في ردة فعل الرسول الكريم ( ص) حيال زلة قدم مؤمن حضر بدر وأبلى فيها بلاء حسناً ومع ذاك جرفته عاطفته حيال رحمه في مكة المكرمة إلى موضع لا يليق به!! فقد قال الحق :” يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ۙ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي ۚ تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ ۚ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ “. ( الممتحنة -١)، فعندما تناهى إلى سمعه أن النبي حزم أمره وعقد العزم على نصرة خزاعة وتلقين قريشاً درساً أخلاقياً لن يُنسى عن مواقف الرجال الرجال، وعن احترام المؤمن كلمته والتزامه بها فلا تنحرف بوصلته عن عهد قطعه على نفسه، بل إن الأثمان تدفع زهيدة ولا يُؤْبَهُ بها أمام الحفاظ على العهود والمواثيق،ولقد ورد في الذكر الحكيم :” وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا “.( الإسراء -٣٤)،وأن الدوائر تدور على الباغي الذي لا يُؤمن غدره ولا يَحترم كلمته ولا يتمسك بعهده !! وأن “المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين “،ولا يحتاج رسول الله(ص) إلى بحور من دماء المسلمين تقدم أضاحي قبل أن يحرك ساكناً، وأن لا ينتصر لأتباعه وحلفائه إلا من بعد أن يبدع الغادر ويتفنن في مكائده ، وهو يصول ويجول ويبتسم كاشفاً عن خبائثه وتحدياته الساقطة، لعل الخوف يتلبس أعماق النبي (ص)وأتباعه فيركنون إلى ظهير الجبن والخوف !أو لعل حب الحياة ومتاعها تغويهم فيقعون في حبائلها، ويمارسون حب البقاء في كهوف مظلمة شَؤْمَت مراقيها !!ولقد قال العلي الأعلى :” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا “.(يونس-٢٣)، ولقد قال تعالى :” زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ۘ”.( البقرة -٢١٢)،.

فهل تقاعس الرسول عن نصرة القوم حتى يتبين له إصرار القوم على إعادة الكرة مراراً وتكراراً ؟! أم إن المروءة تأبى الضيم والتخاذل ولبس لبوس النعاج وغض الطرف، ولابد من إحقاق الحق ونصرة الحليف المظلوم، وإثبات قوة الموقف ووحدة الكلمة والصف، وأن المسلم لأخيه المسلم وأخيه الإنسان هو عينه وساعده ويمناه وسيفه المسلول على عدوهما المشترك أو عدو أحدهما شريطة أن يكون العدو باغياً متعدياً فلا يجوز محاربة العدو الجانح للسلام والذي لا يواجهه بالإثم والعدوان ،كما أن الإسلام يقف للمستغلين دماثة خلق النبي ( ص ) وأتباعه وجنوحهم إلى السلام بالمرصاد فلا سبب يؤهلهم إلى الإستسلام وابتلاع الخيف والجور وهم أعزة صناديد ،ألم يقل الله تعالى :” وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ “.( البقرة -١٩٠ )،   ومن منطلقات الحق والحكمة وتبعات العهود والمواثيق ومتعاقبات الإيجارة، قرر رسول الله (ص) أن ينهض ومن معه من المؤمنين لنصرة بني خزاعة وحتى لا يُروج يوماً أن رسول الله(ص) ظهير ضعيف ومتخاذل عن نصرة حلفائه !! كما أن رسول الله(ص) تمنى على الله سائلاً إياه أن يعمي أخباره عن قريش فيباغتهم من حيث لا يحتسبون .

وكما أسلفنا أن حاطب بن أبي بلتعة استبد به ضعفه وخوفه من هزيمة محتملة يضيع فيها الغالي والحبيب ويؤسر فيها العزيز وربما تمتهن فيها أعراض وكرامات الأحبة! فأضله حبه لرحمه إلى تحذير قريش لعله بذلك يسعف أهله من شر مستطير برسالة بيد سارة مولاة أبي لهب، والتي تسابقت مع الريح تنذرهم ،إلا أن إرادة السماء ذهبت إلى غير ما ذهبا إليه ،فنزل حبيب المصطفى جبريل(ع) سريعاً يخبره الأمر ويكشف له الحدث ليتداركه ويمنع وقوعه بيد كرار غير فرار (ع)، وأحبطت الجريمة قبل فوات الأوان، وفضح حاطب بن بلتعة وأقسم اليمين عظيماً أنه ما فعل ذاك لا شاكاً ولا كافراً ولا منافقاً ولكن الرحم وما أدراك ما الرحم !! وإن عجبت من فعله فأعجب وأطرق   وتفكر ملياً في عفو رسول الرحمة (ص) الذي سبر أعماق الرجل ودموعه وتوسلاته فعلم أن لحظة ضعف جرفته إلى الوقوف ذليلاً بين يدي النبي (ص) ، ومن ثم استصرخ شيم النبي ورحمته وتوسل مقسماً على رسول الله (ص) بربه أنه وحق من سُجد له نادماً تائباً طالباً العفو من العفو الغفور جلت قدرته ، ومن كريم تأدب بآداب الطاهر المطهر ف “العفو عند المقدرة” وهكذا كان، فقد رق رسول الله(ص) لتوسلاته وعفا عنه على ألا يعود لمثلها أبداً، ورغم أن صوت أحدهم تعالى طالباً ضرب عنقه إلا أنه لم يكن وارداً في ذهن رسول الله (ص) فعلٌ كهذا البتة، ولم يحدث رسول الله(ص) نفسه بتضخيم الأمر غاضاً الطرف عن الأسباب التي دفعت ذاك المؤمن إلى تصرف متسرع غير مدروس،   ومتجاهلاً تاريخه البدري المشرف !!فالحكمة ضآلة المؤمن ومن أحكم من الله ورسوله (ص) لنظرة حكيمة متعمقة فيقدر للمرء ضعفه وذله ومسكنته طالما كان صادقاً في توبته ومتمكناً من إيمانه، فالله عفو غفور والله يحب التوابين،فلقد عودنا الله تعالى على رحمته وعفوه :”وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ “.( الشورى -٤٠ )، وكذلك قال :” يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ “.( المائدة-٤٠)، ولم تكن فرصة ذهبية لرسول الله ( ص) كونه نبي هذه الأمة وقائدها والآمر الناهي فيها لتلقين المسلمين وأتباع الدولة الفتية موعظة ودرساً تكون للأولين عبرة وزجرة، وللآخرين موعظة ودرساً عملياً لكيفية الضرب بيد من حديد لمن تسول له نفسه الإنزلاق في حبائل عدو الله والرسول (ص) وعدو الإسلام والمسلمين ولو سهواً أو ضعفاً غير آبهين باحتمال كونها عابرة وأنها لحظة طيش لا ترقى لمرحلة التخاذل والتأمر ، أو الردة عن دين الله والتعاون مع العدو على نحو متواصل عمداً وإصراراً ونفاقاً، فلعل الكبير يزدجر،ولعل الصغير ترتعد فرائصه ويشب على الطاعة العمياء والخوف المطبق من عقاب لن يُفَوِتَ زلات القلوب أو مفاسد الخواطر، ولا خطوات غير مدروسة تمت أو تتم في لحظات ضعف كتلك التي وقع فيها حاطب بن أبي بلتعة ،وإنما الحكمة تقتضي إحدى النظرتين إما عقاب يتناسب والوزر المرتكب،أو عفو ورحمة قد يكون وقعهما على الآثم إيجابياً فيصحح مساره ويطرد شياطين الفكر ويتوب إلى ربه، أو أن العفو والإحسان وتلك نظرة إلى المنظور البعيد شديدة الأهمية حيث التسامح لغة العقلاء والعفو شيم الرجال النبلاء، في الحدود التي لا تضيع معها لا الدولة ولا هيبتها ولا يُضَيعُ بهما الحقوق العامة ولا الخاصة، ولا يُتَلاعب بدين الله، فيُوضعا- أي الدولة ودين الله- كرةً تتقاذفها شياطين الإنس والجان حسب الهوى والمصلحة الشيطانية فيُحَكَمُ الدين عند الحاجة ويُقْذَفَ في يم النسيان والطغيان عند الضروات التي تتطلب إنقاذاً للمتلبسات من فتنهم ونجدة ونجاة لرؤوس حان قطافها !!

{ من مركز آل البيت العالمي للمعلومات 🙁 الإرشاد ١/٥٧):

“كتب حاطب بن أبي بلتعة ـ وكان من أهل مكّة وقد شهد بدراً مع رسول الله(صلى الله عليه وآله)ـ مع سارة مولاة أبي لهب إلى قريش: إنّ رسول الله خارج إليكم يوم كذا وكذا.

وجعل لها جعلاً على أن توصله إليهم، فجعلته في رأسها، فخرجت وسارت على غير الطريق، فنزل الوحي على النبي(صلى الله عليه وآله) فأخبره، فدعا الإمام عليّاً(عليه السلام)، وقال له: “إنّ بعض أصحابي كتب إلى أهل مكّة يخبرهم بخبرنا، وقد كنت سألت الله عزّ وجلّ أن يعمي أخبارنا عليهم، والكتاب مع امرأة سوداء قد أخذت على غير الطريق، فخذ سيفك والحقها وانتزع الكتاب منها وخلِّ سبيلها”.

ثمّ استدعى الزبير بن العوام فأرسله معه، فأدركا المرأة، فسبق إليها الزبير فسألها عن الكتاب فأنكرته، وحلفت أنّه لا شيء معها وبكت، فقال الزبير: ما أرى يا أبا الحسن معها كتاباً، فارجع بنا إلى رسول الله لنخبره ببراءة ساحتها.

فقال له الإمام علي(عليه السلام): “يخبرني رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنّ معها كتاباً ويأمرني بأخذه منها وتقول أنت أنّه لا كتاب معها”!!

ثمّ أخرج(عليه السلام) سيفه وتقدّم إليها فقال: “أما والله لئن لم تخرجي الكتاب لأكشفنّك، ثمّ لأضربنّ عنقك”، فقالت له: فأعرض بوجهك عنّي، فأعرض بوجهه عنها، فكشفت قناعها، وأخرجت الكتاب من عقيصتها ـ أي ضفيرتها ـ، فأخذه(عليه السلام) وسار به إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله).}

{ من مركز آل البيت العالمي للمعلومات :(بحار الأنوار ٢١/١٢٠):

أمر النبي(صلى الله عليه وآله) أن يُنادى: الصلاة جامعة. فاجتمع الناس حتّى امتلأ بهم المسجد، ثمّ صعد المنبر والكتاب بيده وقال: “أيّها الناس، أنّي كنت سألت الله أن يخفي أخبارنا عن قريش، وأنّ رجلاً منكم كتب إلى أهل مكّة يخبرهم بخبرنا، فليقم صاحب الكتاب وإلّا فضحه الوحي”، فلم يقم أحد.

فأعاد مقالته ثانية، فقام حاطب بن أبي بلتعة ـ وهو يرتعد كالسعفة في يوم الريح العاصف ـ فقال: أنا يا رسول الله صاحب الكتاب، وما أحدثت نفاقاً بعد إسلامي، ولا شكّاً بعد يقيني.

فقال له رسول الله(صلى الله عليه وآله): “فما الذي حملك على ذلك”؟ قال: إنّ لي أهلاً بمكّة، وليس لي بها عشيرة، فأشفقت أن تكون الدائرة لهم علينا، فيكون كتابي هذا كفّاً لهم عن أهلي، ويداً لي عندهم، ولم أفعل ذلك لشك منّي في الدين.

فقال عمر بن الخطّاب: دعني يا رسول الله أضرب عنقه، فوالله لقد نافق، فقال(صلى الله عليه وآله): “إنّه من أهل بدر، ولعل الله اطلع عليهم فغفر لهم، أخرجوه من المسجد”.

فجعل الناس يدفعون في ظهره، وهو يلتفت إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) ليرّق عليه، فأمر بردّه وقال: “قد عفوت عن جرمك فاستغفر ربّك، ولا تعد لمثل هذه ما حييت”.}

يقول الحكيم العزيز :” ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ۚ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ “.( المؤمنون -٩٦) ، وقال جل جلاله :” وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ “.(فصلت-٣٤).

           -للحديث بقية –

الكاتب ام عزيز (سلوى الشيخ علي)

ام عزيز (سلوى الشيخ علي)

مواضيع متعلقة